(11) مع الحبيب

chay3.png 

 

 

(11)

مع الحبيب

عزمت على زيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وقررت أن أجعل هذه الزيارة بكاملها للتأمل، والعيش مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة، وفي مسجده وبالقرب منه، وما إن حطت الرحال في مدينة الرسول، وبدأ المسير نحو المسجد، حتى بدأ شريط سيرته يمر بمخيلتي كما لو كنت أرى الأحداث من حولي، بمثل ما قرأتها وسمعتها.

لاحت القبة الخضراء والمآذن، حيث يرقد الحبيب صلى الله عليه وسلم، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، بعد ثلاثة وعشرين عاما من الدعوة إلى الله، لقي الحبيب ربه وقد بلغ الرسالة، وأدى أمانة التبليغ، وأمته، أمة محمد، لا تزال كما هي، أمة محمد، رغم الضعف والهوان، ورغم التراجع والتفريط، فإن حبا عظيما لا يزال يسكن قلوب أفراد هذه الأمة، تجاه نبيهم العظيم، لقد مرت هذه الأمة بعدة عصور من الضعف والقوة والضياع والتماسك، اختلفت الأحوال بطبيعة الحال، ولكن محبة محمد صلى الله عليه وسلم لم تختلف ولم تتغير، فهو الحبيب على مر العصور، وهو النبي الكريم الذي له بعد الله كل الفضل، ماذا كنا نفعل لو لم يكن فينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ وكيف كنا نعيش؟

إن السعادة التي نجدها اليوم بعد كل صلاة وعبادة، والراحة التي تملؤنا من الداخل، وتكسونا من الخارج، هي لعمري أعظم نعمة يجدها إنسان في هذه الحياة، وكم من المحرومين لم ينعموا بمثل ما ننعم، ترى، هل فكر صناديد قريش آنذاك في مثل هذا؟ هل سمح أحدهم لنفسه لحظة بالتغلب على كبريائه ليجرب لذة الصلاة والركوع والسجود، فيتخذ القرار الأصوب وينتقل من عبادة الأوثان إلى عبادة رب عظيم كريم منان!

اقتربت من المسجد، أغمضت عيني فرأيت المكان يعج بالناس، والجميع في عمل دؤوب، كل يشارك بما استطاع، لبناء المسجد، إنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، الصحابة جميعهم ورسول الله معهم، يبنون المسجد النبوي، ليكون هذا المكان، الذي أقف اليوم فيه منطلق الرسالة المحمدية إلى العالم بأسره، بداية التغيير، ونهاية الجهالة والتخلف، مثال النصرة، والأخوة، والمبادئ السامية، كلها من هذا المكان انطلقت وانتشرت، فكانت مدينة الرسول، التي احتضنته في حياته وبعد مماته، تلك التي لم يكن لها ذكر قبل تشريفه لها، يثرب؟ وما يثرب؟ إنها المدينة المنورة، اسم يليق بها، ولئن شرفت يثرب ذات يوم بدخول النبي صلى الله عليه وسلم إليها، فإنها شرفت به أميرا لها، وقائدا عظيما يقود الأمة منها، فاستنارت بهديه، وأشرقت برسالته، فأصبحت المدينة المنورة، بعد أن كانت مجرد يثرب.

في هذا المكان تجمع الأحزاب ليبيدوا الحق ويعلو كلمة الباطل، واشتد الحصار على النبي وصحابته، فأرسل الله جنوده، وكتب النصر لنبيه وصحابته، فتراجع الكفر ذليلا صاغرا، وبقي الحق حقا، وعلا شأنه في العالمين.

من هذا المكان، انطلقت حجافل الحق تذود عن حمى الإسلام، وتنشره وتبلغه، حتى جلجل صوته في سائر المدائن، وارتفع صوت الأذان في المشرق والمغرب.

في هذا المكان كانت معظم الأحداث والمشاهد التي سمعناها في أحاديث النبي، وصور البيت النبوي، خير البيوت على الإطلاق، دروس التربية والاجتماع التي لم يصل العلم حتى اليوم إلى مثلها رقيا وعظمة.

وفي هذا المكان، كانت وفاة أعظم من وطئت قدماه الأرض، محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يوصي بالصلاة، ويردد، الصلاة الصلاة، ثم يختار، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، حتى اختاره الله لجواره، فانتقل إلى جوار ربه تعالى، وبقيت سيرته، ودروسه، وعظمته فينا إلى يوم الدين، ذلك المعلم الذي ما كان مثله معلم، والحبيب الذي اشتاقت له قلوب محبيه من أمته، جمعنا الله به في الفردوس الأعلى، مع صحابته الكرام، وجزاه عنا خير ما جازى نبيا عن أمته، صلى الله عليه وسلم.

 

بو ياسر

17 ديسمبر 2009

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني