(9) الـرّحـيـل

chay3.png

 

 

(9)

● الرحيل ●

 

رغم الأعوام الثمانية التي مضت، لا أستطيع نسيانها، ورغم كل ما كتبت عنها من قبل، لازلت أجدني مقصرا في حقها، تلك العظيمة التي رحلت وما اكتفينا منها، ولا ارتوينا من حنانها بعد.

 

أم أحمد، جدتي لأبي، تلك التي لم تعرف من العلوم شيئا، ولكنها كانت مدرَسَة تدرس العلوم كلها، تدرس العلوم بالفعل لا بالقول، جدتي تلك التي كنا نجتمع عندها، عندما كنا صغارا، والكبار معنا، يجلسون كما نجلس، المجلس والحديث والضحكات والألحان، ذكر الله والصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذكريات والأمنيات والدعوات، والبسمات والحب، هل يجد أحد منا الحب اليوم كما وجدناه من قبل مع جدتي؟

 

عندما نسمع صوت عكازها، نقوم من فورنا، يتقدمنا الكبار لننحني ونقبل رأسها، فتسحب أكفنا لتميل عليها بقبلتها الدافئة، ونقف في صف طويل كل منا ينتظر دوره للفوز بقبلتها، وما أن تجلس حتى نتحلق حولها كبارا وصغارا، والدي معنا وأعمامي، يحتبي أحدهم ويجلس الآخر على ركبتيه كما يجلس الصغار، ولا تفارق البسمات الوجوه، ونحن أيضا، لا تزيغ عيوننا عنها لحظة واحدة، فهي الخير كله، وهي التي لا ينقطع الدعاء عن لسانها، هي نهر العطاء الذي لا يمنع خيراته عن أحد صغيرا كان أم كبيرا..

 

عندما أذكرها اليوم، تتمثل أمامي صورة لوجه باسم وهي تقول: “يحفظكم الرحمن”، هذه هي جدتي التي عرفت، وهذه هي الصورة المطبوعة لها في ذاكرتي، لم أسمعها تتكلم إلا بخير، ولم أسمعها يوما ترفع صوتها، أو تنهر طفلا أو تؤنبه، كل ما نفعل كان جميلا عندها، شقاوة الأطفال المعتادة لا تقابلها إلا بدعاء وابتسامة، وإن انقطع الحديث عن المجلس فإنها تحييه بالدعاء للحاضرين فردا فردا، ولا تنسى الغائبين، فتجعل لهم نصيبا من دعائها.

 

أراها أمامي وكأنها واقع الآن، تبدأ يومها كل يوم بالاتصال بأهلها وجيرانها السابقين، الذين قضت معهم أيام الماضي الحلو رغم مرارته، تسأل عنهم وعن أحوالهم، وتختم حديثها بالدعاء، ثم تستقبل القبلة لتصلي الضحى، وتعود إلى مكانها مستقبلة كل ما حولها بابتسامة، ودعاء، وقلب أبيض صاف لا يعرف إلا المحبة والرضا.

 

ولكن، هي اللحظة التي لا بد منها، تلك التي يمر بها كل الخلائق، تلك التي تأتي بغتة، لم تستيقظ جدتي ذلك اليوم لتحيي الليل، ولا لتصلي الفجر، فقد كان وقت المنية أقرب لها من ذلك، وبدون إنذار جاء الخبر، تجمع الجميع عند باب الغرفة منتظرين خروج تلك المرأة العظيمة، إلى المكان الذي يرحل إليه الجميع، وخرجت، ولكن بدون عكازها هذه المرة، محمولة على الأكتاف، تشيعها الدموع، والدعوات، وصلني الخبر صباحا باتصال من والدتي، فقررت العودة إلى البحرين، أسندت رأسي على نافذة الطائرة وبدأت الذكريات تأخذني بعيدا، ومع كل ذكرى كنت أجدها مبتسمة، داعية بالخير، نقية بقلبها الأبيض، عظيمة، عظيمة بروحها العالية، وإيمانها الصادق، نعم لم تكن جدتي متعلمة، ولكنها في كل ما مضى، كانت لنا جميعا، خير معلمة.

 

بو ياسر

7/12/2009

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني