(8) مـظـاهـر

chay3.png

(8)

مظاهر

دخل علي وأنا في غمرة العمل دون استئذان، وصافحني بحرارة ثم قام بسحب الكرسي وألقى نفسه عليه، وأطلق زفرة ممزوجة بابتسامة مع عبارة: كيف حالك يا عمار؟ وأنا أرمقه بدهشة وتعجب، ظل يعيد كلمات التحايا وعبارات الوداد وأنا لازلت متعجبا من أسلوبه، والأشد عجبا في الموضوع أن انفتاحه هذا كان بالرغم من أنني لا أعرفه ولم ألتق به سوى مرة أو مرتين في لقاء عام، ولم تكن فترة ذلك اللقاء كافية ليكون معي بهذه الحميمية!

لم أتكلم سوى بقدر ما يتطلب الكلام، وهو لم يسكت سوى بقدر ما يتطلب النفس، وأنا أتأمل الساعة أنتظر رحيله لأنهي واجباتي المتراكمة.

رفع رجلا على الأخرى وعدل غترته لتلوح لي تلك العلامة التجارية على طرفها، ثم استند على ظهر الكرسي ووضع يده على الطاولة لتصطدم ساعته بسطح المكتب، ثم رفع كم ثوبه لتعكس ساعته شيئا من بريقها في عينيّ!

ولا يزال ينتقل من حديث إلى آخر، يسألني عن عملي تارة، وعن مرتبي تارة أخرى، ثم يسألني عن سيارتي، وعندما أخبرته عنها فغر فاه وقال: أهذه سيارتك؟ وكأنني ذكرت عنده بغلة لا سيارة! ثم عاد للحديث عن كماليات أخرى، وأسياسيات أيضا، ولكنه كان يضع لنفسه سطرا بين كل سطرين ليتحدث فيه عن عظيم مكانته وشريف قدره.

رن هاتفه ليرد بلهجة أجنبية ركيكة، وأعاد بعض الكلمات مرارا وكأنه يقول لي: اسمع يا عمار، ثم هدد ووعّد وأنذر بقطع العلاقات، لا أعلم أية علاقات ولكن هكذا كان تهديده، وأنا أكتم غيظي وضحكتي، ثم أصدر أمرا بعدم التصرف حتى يعود، والويل والثبور لمن خالف أمره!

بعد سلسلة من الأحاديث التافهة، سحب من جيبه بطاقة ووضعها على الطاولة، ثم تناول من جيبه الآخر قلما لا يقل بريقه عن بريق الساعة، تناول قلمه بالرغم من أن مكتبي يعج بالأقلام من مختلف الألوان والأشكال، تناول القلم فقط، ليرسم خطا أسفل رقمه في البطاقة! وكأنني لا أعرف التفريق بين رقمه واسمه، وقف بعد ذلك معللا (سرعة مغادرته) بكثرة انشغالاته، وبالأعمال التي توقفت في اللحظات المنصرمة لغياب الدينامو، حضرة المدير المتحكم في كل هذه الأعمال، وانصرف سعادته دون أن أعرف سببا لزيارته ولا مناسبة لتواجده، غير أني أحلل أنها كانت فرصة له لاستعراض ما استعرض، ولو فكرت أكثر من ذلك لما وجدت في تواجده غير ما وجدت!

ليس هو الوحيد، كثيرون أصيبوا بمثل ما أصيب به هذا الشخص، إنه مرض المظاهر، يتصرف المصاب به كالمجنون وكأنه مسرح وعليه تسلط الأضواء، ما أجمل البساطة والتواضع، وما أجمل أن ينعم الفرد بأنعم الله دون تعال وتكبر، والأجمل من ذلك، أن يرى أحدنا نفسه أقل من غيره تواضعا منه وخفضا لجناحه، حتى وإن علا في مركزه ووجاهته.

 

بو ياسر

2/12/2009

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني