(5) طُـمُـوح

chay3.png 

(5)

طــمـــوح

 

أنهيت المرحلة الإعدادية ثم انتقلت إلى الثانوية – المسار العلمي، ولا أدري اليوم لماذا اخترت المسار العلمي، ربما كنت أنصت لمن حولي، أو لأن المدرسة التجارية كانت بعيدة عن منطقتنا، انتظمت في مدرسة الهداية الثانوية دون خطة مسبقة، قرار لم يتخذ بعد دراسة طويلة وتمحيص، وإنما كان قرارا سريعا، يشبه إلى حد ما قرار الخروج لتناول العشاء.

أنهيت المرحلة الثانوية، وقد كنت أنوي دراسة علوم الحاسب، ثم غيرت رأيي لأختار المحاسبة، ولا أعلم أيضا لماذا كنت أتنقل في رأيي بين هذين التخصصين، لا أذكر أنني كنت أحب العبث بالحاسوب ولم أكن أعرف شيئا من علومه، كما أنني لم أعرف المحاسبة إلا مع أول مقرر في الجامعة، مما يؤكد لي أنني لم أختر المحاسبة حبا فيها، وإنما اخترتها لسبب لا أعلمه، ربما يكون السبب في ذلك الوقت الحديث عن متطلبات سوق العمل ومثل هذا الحديث الذي كنا ولازلنا نسمعه كثيرا.

أثناء دراستي الجامعية، سمعت قصة على لسان أحد الدكاترة الأفاضل، يحكي قصة عايشها بنفسه، عن طالب سنغالي يدرس في نفس الجامعة، جامعة الإمارات العربية المتحدة.

سأل الدكتور مجموعة الطلاب في الفصل عن خطتهم بعد التخرج، فكان الجواب شبه الموحد، العمل في دائرة حكومية للحصول على راتب وافر، يتيح لصاحبه مواصلة الحياة في رغد ووفرة وأريحية، كلام جميل..

غير أن الطالب السنغالي، كان له طموح آخر، وخطة أخرى، فقد كان جوابه، أنه يطمح أن يكون وزيرا للخارجية في بلاده، السنغال!

أعلم أنه لا داعي لذكر السطر القادم، ولكنني سأذكره، بدأت النظرات بالتبادل بين الطلاب الحاضرين، والهمسات واللمزات والضحكات تأخذ حيزها، حتى قطع الدكتور كل ذلك، بشكره الطالب على علو رؤيته، وسمو طموحه، وانتهى درس ذلك اليوم كما ينتهي كل درس.

بعد سنوات من هذه الحادثة، يخبر الدكتور أنه كان في زيارة إلى فرنسا، لحضور مؤتمر عالمي هناك، فكان ممن حضروا معه المؤتمر، شاب سنغالي، جاء إليه وعرف بنفسه، إنه ذلك الطالب السنغالي، الذي حضر المؤتمر بصفته سفيرا للسنغال في فرنسا!

كم خطوة بقيت بعد السفارة للوصول إلى الوزارة؟ لا أعتقد أنها كثيرة، ولكن، هكذا يأخذ الطموح صاحبه إلى الهدف بسرعة ودقة، حتى وإن تطلب ذلك الكثير من الجهد، فالنتيجة في النهاية تجب ما قبلها من خطوات فاشلة.

تعمدت أن أتكلم عن نفسي في البداية، لأنني مثال واحد، والأمثلة غيري كثيرة، لم أحدد هدفي في البداية، والحمد لله أنني وفقت في اختيار التخصص، وإلا فإني لم أكن قد أخذت سببا في ذلك، ولم أخطط للمستقبل كما يجب أن أفعل، لا أعني الطموح في الوظيفة والحياة العملية فقط، بل هو الطموح، الطموح والرؤية البعيدة التي تأخذ صاحبها إلى أفق واسع وفضاء رحب، في الوقت الذي يعاني فيه الآخرون ضيق محيطهم، ويحاولون الخروج منه دون جدوى، لأنهم تركوا الحياة تسير لهم الأمور، وهكذا سارت بهم.

لي أخ عرفته أيضا أيام الدراسة، تخرج من الجامعة بامتياز مع مرتبة الشرف، وبدلا من أن تتهافت عليه الشركات والمؤسسات، فإنه قد انتظر وعانى كثيرا حتى حصل على وظيفة لأنه ليس من مواطني الدولة، ولم تكن تلك الوظيفة تستحقه، فقد كانت وظيفة يخرج بها من دائرة العاطلين لا أكثر.

واليوم وبعد سنوات من تلك الأيام، يفتخر صاحبي بشهادته العليا، وبالشهادات التي استغل الوقت للحصول عليها طوال تلك الفترة، وهو اليوم رئيس قسم التسجيل في إحدى الجامعات الكبرى بالإمارات، ومدرب بترخيص من جامعة كبرى، يدرّس في المعاهد والجامعات ويلقي الدورات التدريبية لأكثر من مؤسسة والطلب عليه مستمر، لأنه كان طموحا، ولم تمنعه الظروف من تحقيق طموحه.

قصص تذكرتها، وأحببت أن أشحذ همتي، وأذكر غيري، لنعيد رسم طموحنا، أو، لنجدده مرة أخرى وننطلق نحو الهدف..

 

بو ياسر

9/11/2009

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني