(4) الأسـتـاذ مـحـمـود

(4)

الأستاذ محمود

لماذا أكتب؟ هذا السؤال أكرره على نفسي أحيانا، لماذا يجد البعض هوايتهم في لعب الكرة، أو الرياضة عموما، أو في الرسم، أو في التصميم وما سواه، بينما أجد نفسي تتوق إلى الكتابة وتعشقها عشقا، لماذا؟ وكيف بدأ ذلك؟

لا أحب الحديث عن نفسي، ولكنني مضطر لذكر هذه القصة لأن فيها إشارة إلى واقع لم نعد نراه، أو قلما نراه، نحن في أشد الحاجة إلى مثله، ليكون الجيل القادم أفضل، أو أن يكون بمستوى الجيل السابق، لا أن تتراجع الأجيال في مستوياتها حتى تصير إلى خراب.

أستغرب جدا عندما أتحدث مع الطلاب في المرحلة الثانوية أو المتخرجين منها توا، وأستغرب أكثر عندما يكون الحديث عن اللغة العربية بالذات، أستغرب الإهمال والتسيب بصورة عامة، ولكنني أستغرب أكثر، كون اللغة العربية آخر اهتمامات الشباب، وأقل المواد حظوة لديهم، إذ هي المادة التي يعتمد فيها الصف بأكمله، على فرد أو اثنين في تحصيل الإجابات، ومن ثم الدرجات!

عندما كنت في الصف الأول الثانوي، كنت كغيري من الطلاب، أتخذ مادة اللغة العربية فرصة للراحة والنوم، أو للرسم، فقد كان كتاب اللغة العربية عندي تحفة فنية، لكثرة الرسومات والشخصيات التي تتوزع بين صفحات الكتاب.

حتى جاء اليوم الذي طلب فيه الأستاذ محمود موضوعا، طلب منا أن نكتب قصة بدون تحديد المحاور، فكانت تلك هي الفرصة الأولى لينطلق قلمي دونما قيود، ولأكتب ما أفكر فيه، دون أن يختار أحد الموضوع الذي أكتب فيه.

الأستاذ محمود يختلف تماما عن باقي مدرسي اللغة العربية، فقد كانت هذه المادة، تجري فيه جريان الدم في العروق، يحبها، كنا نرى هذه المحبة في كلماته وأحاديثه، وبناء على هذه المحبة، فقد كان مخلصا في تدريسه، يحاول أن يستفيد الطالب منه، وهو قديم في مهنته قدير فيها، درس الأجيال في مدرسة الهداية، درّسني ودرس والدي من قبلي، وربما درس أجيالا قبله.

قمت بتسليم الموضوع في الوقت المحدد، ولأن الأستاذ محمود يقرأ المواضيع كلها ويتفحصها بدقة، ويصحح الكلمات والحروف وحتى علامات الترقيم، فإنه يستغرق في التصحيح أسبوعا على الأقل، بعد انقضاء الأسبوع عاد الأستاذ ومعه مواضيع الإنشاء، وبدأ ينادي الأسماء، ويعلق بعد كل اسم على الموضوع، ويذكر الأخطاء وينتقد في بعض الأحيان انتقادا لاذعا، ويثني على البعض مع ذكر بعض الملاحظات.

وأنا، لازلت أنتظر اسمي، جميع الزملاء استلموا أوراقهم وبقيت منتظرا، حتى رفع الأستاذ ورقة أخيرة، وقال: عمار، قلت نعم، ثم التفت إلى الصف وقال: لم أجد موضوعا متكاملا خاليا من الأخطاء اللغوية والإملائية سوى موضوع عمار، لم أستطع كتم ابتسامتي، واستغل زملائي الفرصة للترفيه، فارتفع صوت التصفيق، والأستاذ يبتسم أيضا، وكنت أكثر سعادة عندما وجدت العلامة النهائية على ورقتي، بالرغم من أنني لم أعرف أحدا حصل على العلامة النهائية عند الأستاذ محمود من قبل!

قد لا أكون اليوم أديبا أو كاتبا، ولست مؤلفا مخضرما، لكنني على الأقل، لازلت أحب الكتابة، وأعود إليها كلما أردت التعبير، وأجد فيها سعادة وترفيها لا أجدهما في أي مكان آخر، والفضل في ذلك يعود لله سبحانه وتعالى، ثم للأستاذ محمود، أطال الله عمره وحفظه.

لمثل الأستاذ محمود يحتاج جيل اليوم، مدرس يحب مادته، ليجعل الطلاب يحبونها من بعده، أجيال تتلوها الأجيال، أجيال تعشق لغة قرآنها، وتحبها، وتفتخر بهويتها العربية والإسلامية، لتستحق السيادة، والوصول إلى أسمى الغايات.

5/11/2009

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني