(2)
● نظرة احتقار ●
لم أكن في حياتي ذلك الشخص الذي يذرف الدموع لأتفه المواقف الوجدانية، خاصة أمام الآخرين، غير أن تلك المواقف كانت تأخذ لها مكانا في داخلي قد لا أستطيع صرف فكري عنها لشدة إشغالها تفكيري، وربما أكون قد ذكرت ذلك في أكثر من قصة أو حادثة من قبل.
واليوم أعود لأذكر موقفا لم أره مباشرة، ولكنني رأيته عبر قناة اليوتيوب، موقف لم أستطع تجاهله، خاصة وأن المخرج لعب بمشاعر المشاهدين وأظهر موهبته في ذلك، والموقف ليس فريدا من نوعه، فقد رأيت مثله الكثير، وكل هذه المواقف تعود بي إلى ذات التفكير الذي يجعلني أعيد النظر في نفسي، وأسألها من جديد، من أنت ولماذا يأخذك التفكير إلى ذلك البعد؟
لا يزال الموضوع يلفه الغموض، أعتقد أنه من الأفضل أن أبدأ من نقطة البداية.
في برنامج المواهب العالمي، الذي يقام في المملكة المتحدة وله نسخة تقدم في الولايات المتحدة الأمريكية، تقدم رجل أمريكي سيء المظهر والصورة، بدى أمام الجمهور بزي بسيط وربما يكون رثا، وقف وقد أدار قبعته إلى الخلف، لم يكن يلبس زيا متناسقا ولا بذلة أنيقة، كانت صورته كما ذكرت، مثيرة للاشمئزاز، وقد ازداد ذلك الاشمئزاز قدرا عندما بدأ بالحديث أمام الجمهور، مما أدى إلى سخرية الآلاف أمام كاميرات التصوير من لكنته القروية.
لم يلق ذلك الرجل اهتماما لرأي الجمهور ولا لارتفاع ضحكات عضوة لجنة التحكيم من لكنته، لكنه عرف بنفسه وذكر أنه جاء ليعرض موهبته في الغناء والعزف على الغيتار، وأتبع أنه عاطل عن العمل ويعيل أسرة مكونة من زوجة وابنين، بدأ بعد ذلك بعرض موهبته التي لم ينتظر أحد أن تكون موهبة بالفعل، وما هي إلا ثوان حتى ساد الصمت المكان وبدأ الجمهور بالتصفيق وقام أحد أعضاء لجنة التحكيم بالوقوف له احتراما واعتذارا في نفس الوقت، وقد قرأت لاحقا أنه احتل المرتبة الأولى على مستوى الولايات المتحدة في موهبته.
بعيدا عن الخوض في موضوع حرمة الغناء والعزف وما إلى ذلك، سألت نفسي سؤالا، وربما كان هذا السؤال هو ما جعلني أعيد المقطع مرة وأخرى، لماذا نحكم على الآخرين من مظهرهم؟ لماذا نخطئ كثيرا في تقويم الناس من حولنا وكأننا نزهو بالكمال وننعم فيه!
يعرف أهل المحرق هذه القصة، كانت في المحرق امرأة عجوز، مجنونة على الأرجح، تتسول على عتبات المساجد وعند مواقف السيارات في سوق المحرق، ولا تكاد تذهب إلى مكان عامر بالزوار إلا وجدتها تمد يدها للسؤال، ولا يقترب منها أحد الأطفال لإيذائها إلا بادرت هي بكيل الشتائم والسباب ليعود وقد قصمت الشتائم ظهره.
اختفت تلك المرأة لسنوات لم يفتقدها فيها أحد، ولم يسأل عنها أحد، حتى كان ذلك اليوم الذي اختار الله فيه امرأة من أهل المحرق أيضا، من عائلة معروفة، وهي أيضا معروفة بقدرها وعملها بين أبناء المنطقة، زوجها وأبناؤها، وأهلها وأهل زوجها، مكانة كل هؤلاء جعلت من وفاة هذه المرأة الشابة مصابا جللا، خاصة وأن الوفاة كانت مفاجئة للجميع، ازدحم المصلون في مسجد المقبرة حتى امتلأ فلم يعد فيه مكان لفرد واحد، وعندما انتظم المصلون للصلاة وتم إحضار الجثمان، تبعه جثمان آخر لميت لم يعرف هويته أحد، وتفاجأ الجميع أنه كان لتلك العجوز المجنونة، التي لم يسل عنها أحد، ولم يكن لها أهل، اختار الله لها الوفاة في ذلك اليوم ليشيعها هذا الجمع من المشيعين، تلك التي كانت حقيرة في أعين الناس جميعا، أكرمها الله بهذا، فهل يضمن الواحد منا أن يكون له مثل ذلك عند وفاته؟
ليست الصورة التي أمامنا حقيقية كما تراها أعيننا دائما، ففي بعض الأحيان تخوننا نظراتنا، ويكشف ستار الغيب عن أمر كنا قد جهلناه من قبل، وربما نظلم غيرنا، ونسرف في ظلمه، عندما نقيم الآخرين بما تمليه علينا أنفسنا، عندها، كم ستكون تلك النفس حقيرة في عين صاحبها، جزاء انتقاصه من قدر الآخرين.
3/11/2009