اعتراف

قرأت اليوم في أحد حسابات الصحف العربية، أن السلطات تمكنت من القبض على المتهم في الجريمة التي هزت البلاد، وأن التحقيقات المبدئية تؤكد تورطه في الجريمة المذكورة.

بعيدا عن الخبر والحادثة، كل خبر من هذا النوع يذكرني بقصة حدثت معي قبل أكثر من خمسة عشر عاما في دولة شقيقة، ومع اختلاف الظروف والأحداث والأزمنة بين القصص جميعها، إلا أني لا أستطيع الفرار من إسقاط القصص على بعضها، أو رفع أحد الاحتمالات على غيره.

كنت مع مجموعة من أصحابي في سفرة قصيرة إلى تلك الدولة الشقيقة، وفور وصولنا إلى المدينة توجهنا تلقاء الفندق لنضع الجوازات وأهم المستندات، ثم كانت انطلاقتنا إلى ترفيه لا يعرف الحدود، كما كنا نخطط قبل السفر وخلال الطريق، وفي كل لحظة بين هذا وذاك.

لم يكن لنا بد من أخذ أموالنا غير الطائلة – إذ كنا طلابا حينها – معنا، ومع ذلك فقد كانت تلك الأموال بالنسبة لنا ثروة كبرى، جمعناها على مدى الأشهر القليلة الماضية فقط، من أجل هذه الرحلة.

أوقفنا سيارتنا في المواقف المقابلة للمدينة المائية تحت الشمس الحارقة التي لا يتحرك تحت لهيبها كائن حي سليم، عدا فئة من البشر اعتادت عليها، مثلنا طبعا، وانطلقنا من جديد، نحو متعة لا أستطيع وصفها الآن، لأني لا أذكر منها شيئا، إذ أنساني ما بعدها كل ما قد كان فيها، عدنا إلى سيارتنا فوجدنا أبوابها غير مقفلة كما تركناها، والعبث بالمقتنيات واضح لا شك فيه، هرع كل منا إلى المكان الذي خبأ فيه محفظته، فوجدنا جميع المحافظ قد سرقت عدا محفظتي التي خبأتها في مكان لم يخطر على بال السارق، بالإضافة إلى الكاميرا الخاصة بي والعزيزة علي، اشتريتها قبل عامين من الحادثة بحرّ أموالي لتكون أول كاميرا رقمية أقتنيها في حياتي، ولكن عشرتنا لم تدم طويلا، بقينا بعد المفاجأة صامتين، لا ينطق أحدنا بكلمة، قال أوسطنا رأيا: لنعد إلى البحرين، لا أريد البقاء هنا أكثر، ولكننا عارضنا رأيه طبعا، لا يزال للمتعة متسع، والفرصة لم تضع، يمكننا التبليغ عن الحادثة والسلطات لن تقصر معنا.

اتصلت بصديق قديم من أهل البلد، طلب مني التوجه إلى أقرب مركز للشرطة، ليلاقيني هناك، وبالفعل، توجهنا إلى مركز الشرطة ليستقبلنا الضابط المسؤول بحفاوة وترحاب: أهلا بأهل البحرين، تفضلوا..

بعد أن قصصنا عليه القصص، طمأننا بثقة بالغة حتى صدقنا أن الأمر قد حُلّ، ودعانا للجلوس في غرفته، هناك في معزل عن واجهة المركز، وهناك، عاد إلينا يجر خلفه شابا أسيويا، مقيد اليدين يكاد يبكي من الخوف، يستجدي العطف ويسترحم من حوله، ولكن الضابط المعتاد على هذه المشاهد، لم يعبأ بدموعه ولا توسلاته.

التفت إلينا متبسما ابتسامة، كتلك التي يتقمصها الأشرار في المسلسلات والرسوم المتحركة، ثم قال: هذا هو السارق الذي سرق محافظكم وأمتعتكم! ونحن نعلم أنه لا يمكن أن يكون هو طبعا، إذ أنه كان في المركز قبل وجودنا، ولكننا مع ذلك، لم نستطع التعليق.

بدأ الضابط بالصراخ على الشاب الذي بدأ صوته يعلو بالتوسل والبكاء، حتى كدت أبكي معه، والضابط مستمر بالصراخ والتهديد، ثم أحضر عصا، والتفت إلينا مجددا وهو يضحك وقال: انظروا ماذا سأفعل الآن. ثم بدأ بضرب المتهم ضربا لا يمكن لي أبد الدهر أن أنساه، والمتهم يسأله باكيا: ماذا تريد أن أقول؟

وصل صاحبي – ابن البلد – مع هذا المشهد، لنشكر الضابط على جهوده، وننسحب من مركز تحقيق العدالة، مركز الشرطة، دون نتيجة أو وعد بنتيجة، والحمدلله أني لم أشهد اعتراف الشاب المسكين بالجريمة التي لم يرتكبها، ولست أدري ما حل به بعد ذلك ولا أريد أن أعرف، وأرجو أن يغفر الله لي تلك الشكوى التي قدمتها وما كنت أعرف قبلها ما يدور خلف جدران تلك المراكز.

6 مارس 2022
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني