العمل

دخلت عليه في مكتبه، أحمل إليه رزمة من المستندات، أردت تسليمها له ليتم مراجعتها حسب تسلسل المهام في إدارتنا.
كان مائلا بكرسيه للخلف قليلا، واضعا باطني كفيه على رأسه، فاتحا ذراعيه على أقصى اتساع، شاخصا ببصره للسقف، يتأمل فيه دون حركة، لولا طرفة لاحت من عينه لظننت روحه قبضت على هذا التوازن.
سلمت عليه وناولته الأوراق، تململ وتأفأف وقال: ألا يسع المرء أن يُترك في هدوئه وراحته!
ابتسمت له، وتركت الأوراق، ومضيت، عاد إلي في نهاية اليوم، ومعه نفس الأوراق، وضعها على مكتبي وهو يقول: تفضل، ضيعتم يومي على هذه الأوراق!
في زمن آخر ومؤسسة أخرى، كان يعمل معي شاب بوظيفة سائق، أقرأ المعوذات كلما أردت الاتصال به لطلب يخص العمل، يخص العمل ولا يخصني أنا، يتذمر ويسرد علي جدول أعماله الذي لا ينتهي، أسأل الزملاء من حولي فيتضح لي ألا أحد قد أسدى له مهمة، وأنه يدعي ضغط العمل، ويمارس أعماله الخاصة في وقت العمل.
وفي مؤسسة أخرى أيضا، دخل مكتبي أحد المسؤولين الكبار في المؤسسة، ملأ المكتب بسحابة من السلبية والنقد حتى كدت أختنق، هو مسؤول وبإمكانه تغيير كل ما انتقد، أو السعي من أجل التغيير مع من يستطيع ذلك، ولكنه اختار التصرف الأسهل لا الأمثل، انتقد كل شيء في المؤسسة، وفي البلد، وفي الحظ والنصيب، ثم مضى! كنت قد علمت أنه في المؤسسة محمول مكفول، يُدفع له فوق راتبه من العلاوات ما يجعل جل راتبه أو كله، ادخارا صافيا لا يُمس.
كنت في رحلة عمل إلى العاصمة الهندية دلهي، قبل خمسة أعوام تقريبا، أرسلت لي الشركة المستضيفة سائقا يقلني من الفندق إلى مقر الشركة، ظننت المهمة لن تتعدى الساعتين، ولكنها استمرت من التاسعة صباحا، حتى السادسة مساء، بقيت في مقر المؤسسة طوال ساعات العمل الرسمية، يتعامل معي الجميع كزميل لهم، كان الوضع غريبا علي جدا، الزمالة هناك، أن تلقي التحية صباحا، ومساء، أما ما بين التحيتين فعمل مستمر لا يمكن لأحد من الموظفين بسببه أن يرفع رأسه للأحاديث الجانبية والابتسامات والمجاملات، في الواحدة بعد الظهر تماما، ينصرف الموظفون جميعا في لحظة واحدة وكأن منبها قد نبههم للوقت، إلى استراحة الغداء، يعودون منها في الثانية تماما، المكاتب تخلو في الاستراحة وكأن أحدا لم يكن موجودا، ثم تمتلئ مجددا وكأنها لم تخل قبل لحظات!
انتهى عملي وغادرت مع السائق نفسه، تحدثت معه عن يومي في مؤسستهم، ولم أخف استغرابي من الوضع الذي رأيت، سألني السائق باستغراب آخر: وكيف الحال عندكم إذن؟ أجبته: نعمل من الصباح إلى العصر، الحال يختلف بين مؤسسة وأخرى، في الوظائف الحكومية قد يكون الضغط معقولا أو معدوما، الأمر معتمد على الجهة الحكومية أيضا، في الشركات الخاصة قد يكون الضغط أكثر، ولكن، يغادر جل الناس مكاتبهم في الخامسة إن طال فيها مكثهم.
صمت السائق برهة، ثم قال: هل لك في تجربة ربما تكون جديدة بالنسبة لك؟ قلت: بكل سرور.
ركن صاحبي سيارته في مواقف عامة مكتظة بالناس، لا أنكر الخوف الذي تسلل إلى قلبي عندما رأيت المكان مظلما ومزدحما، الناس في عجلة من أمرهم إلى شيء لا أعرفه، كان السائق يعرف طريقه جيدا، يمشي مسرعا، وأنا أتبعه حيث مشى، بعد طول مسير، وقف عند شباك التذاكر، أدركت عندها أنها محطة القطار المحلي، وأنه أراد أن أصحبه في رحلة بالقطار، أخبرني بعد ذلك أننه سيقلني إلى الفندق ولكن بالقطار بدلا من السيارة الخاصة.
أشار لي نحو كرسي في ركن العربة فجلست، ووقف هو بجانبي وقفة الحارس الشخصي الذي يتوقع الأذى في أية لحظة، ما زاد عندي هاجس الخوف والريبة، أخرجت هاتفي لأشغل نفسي فهب يمنعني من ذلك، أعدت الهاتف إلى مكانه وبقيت أتطلع في الوجوه من حولي، الإعياء يسيطر على الجميع، الكل في صمت مطبق رغم الفوضى العارمة، تناقض عجيب لم أفهم سره.
ثمة رجل يتأمل في هاتفه ثم يبتسم، استطعت أن أختلس صورة طفلة في جواله لا أعلم إن كان عائدا إليها أم هو في غربة عنها أصلا، وامرأة ظلت تتطلع من نافذة القطار إلى اللا شيء، المشهد في الخارج مظلم لا يكاد يرى فيه شيء، إنها تفكر، ولا تنظر، الحال في القطار رغم اختلاف التفاصيل، كان متشابها عند الجميع، هكذا ينتهي يوم العمل هناك، هذه هي الرسالة التي أراد السائق إيصالها لي.
سألته: ماذا أردت من هذه التجربة؟ فقال: لا يحمل العمل معنى واحدا في كل مكان، الفرق، هو ذلك الشيء المتسع الذي رأيته بين “العمل” في وطنك، والعمل الذي يكابده البسطاء هنا كل يوم، في بقعة من هذه الأرض، يمارس الناس العمل لأنه حق لهم تكفله الحكومات، من أجل توفير الحياة الكريمة، بل المرفهة، أما هنا، فإن العمل هو ما نمارسه لأجل العيش فقط، من أجل أن نبلغ يومنا التالي ونحن على قيد الحياة.
منذ تلك التجربة القاسية التي صنعها لي ذلك السائق، صرت أخجل من التذمر فيما يتعلق بعملي، فإن تذمرت ناسيا أو مجبرا، أستحضر تلك الصورة التي طبعت في عقلي، لأمتنع عن التذمر من جديد.
المفارقة الكبيرة بين المتذمرين الذين عرفتهم، والصامتين الذين رأيتهم، تكمن في أُلف الرفاه والاطمئنان تجاه المستقبل، ولكننا بين هذا وذاك، نغفل عن شكر النعمة واستشعار الرضا، نركن إلى انتظار المعجزات بدلا من السعي في الرزق ليكون متقبلا مباركا، نغفل عن أحوال الآخرين وكم لنا فيها من العبر والدروس، لمن كان له في الدروس اعتبار ونظر.

1 يناير 2022

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني