رُشدي

منذ ظهوره الأول في مسرح الحياة، استطاع رشدي أن يخطف الأنظار والقلوب، كل يريد الفوز بدور لمداعبته والظفر بابتسامته، في كل أسرة، يجد الطفل الأول مثل هذا وأكثر.

رغم أنه يكبرني بأكثر من أربعين عاما، إلا أنني صرت – دون شعور مني – أعتبره صديقا لي مقربا، ورمزا للأمل الذي نشأت عليه، أهتم بتفاصيل حياته وأحداثها وكأني أهتم بحياتي أنا، أتابع مواقفه ونظراته ومشاعره وأحاسيسه، متعب جدا أن تهتم بشخص صامت في أغلب الأحيان، مقل في الكلام مكتف بالإيماءات والنظرات، ولكن، رغم كل ذلك، كنت أفهم سره المخبوء، وأعرف نظرته وأدرك مغزاها.

أظهر رشدي فطنة مبكرة، رأيته يدرك المؤامرة من حوله ويرفضها رغم ضعفه، زفّت والدته مجبرة إلى رجل لئيم، بعد استشهاد والده، وقف ينافح عنها وسط صمت الكبار، يريد أن يمسح دمعتها، يتهم ذلك الغريب الذي ظن أنه تسبب في نزول دمعاتها، لم يكن ليفلح في إيقاف المؤامرة، المجتمع لا يرحم الأرملة وكأنها هي التي قتلت بعلها، بل ويثقل عليها بالمزيد إذا اختارت التفرغ لتربية ولدها، المجتمع لا يصمت عن المرأة إلا إذا قبلت بالجحيم، كان ذلك المجتمع هو الذي نشأ فيه رشدي.

ما بين سفالة المستعمر الإنجليزي، ونذالة جابر – زوج والدته – أدرك رشدي الذي لم يبلغ الخامسة، أن الحياة ليست صفحة مشرقة عند كل الصغار، قد تكون الحياة حياة يتم وقهر وظلم ومعاناة، لولا حضن الجدة والجد، وعطف الأخوال الذين فتحوا قلوبهم له واحدا من أبنائهم لا يفرقون بينه وبينهم.

أصبح لرشدي بعض الأصدقاء، صالح وصلاح، ولكن لم تكتمل بهما فرحته، وجدت أسرتهم الممتدة نفسها في مواجهة مع واقع مرير، نسميه اليوم بالتاريخ، ونرمز له مجازا بـ “النكبة”، بعد فراق اجتماعي اضطرت والدته لقبوله، عصف برشدي ووالدته فراق أكبر مع هذه النكبة، ما بين نيران المدافع ودخانها، لم يجد متسعا لعناق أخير يجمعه بها، حمل الصغير وهو لم يبلغ العاشرة على ظهره – بالإضافة إلى حسراته – أحمالا ثقالا، يسند جده وجدته تارة، ويحمل عن خاله بعض المتاع تارة أخرى، يجلس ليستريح لحظة فيدرك أن الخطر يتتبعه وأسرته، فيمضي مع الماضين لا يعلم أحدهم وجهة السير.

يكبر رشدي بين أعمدة الخيام، عزيزة نفسه، يرفض أن يكون ثقيلا على أهله وإن كانوا أهله، يظل صامتا، يأكل ما تيسر من الزاد، يطيع من حوله دون كلل ولا تذمر، يغيث الضعاف من حوله وكأنه يرى فيهم قوة لعزيمته، حتى أصبح الملاذ الوحيد لأم سالم المجنونة، ترى فيه ولدها، وربما يرى فيها والدته، من يدري، يبيع الصحف في المدينة ليحيا كريما بنفسه، ويكمل تعليمه فلا تثنيه الظروف عن تحقيق الهدف.

يشب رجلا، ويبقى مع ذلك صامتا، يختلف رشدي عن صالح وصلاح، هو لا يفصح، بينما يفصحان، هو لا يتكلم، بينما يتكلمان، يظن من حوله أن صمته جهل، ولكن، عندما تجبر الظروف الصامتين من أمثال رشدي على الكلام، يتفتق الغيب عن علم غزير وحكمة دفينة، كونتها السنون الصعاب، منذ الاستعمار، والنكبة، والمخيم ووحله، والخيبات المتتابعة على المخيم وأهله، رغم تغير الحال إلى أفضل منه، بعد كل ذلك، يكشف رشدي عن نفسه، أنا ابن هذه الأرض، صامت، ولكن عن علم، أعرف إلى أين أنا ماض، ومن أجل أية غاية.

يسر الله له أن يعمل عملا يليق بعلمه، فيخطب بنت خاله عيشة، أو عائشة كما تحب أن يناديها، ثم يغادر إلى السعودية مهندسا، وفي خطته المزيد بعد ذلك، ما بين الغربة والمخيم، يتكون لرشدي قلب جديد عامر بحب للوطن السليب، الحب كان موجودا، ولكنه اليوم أكبر منه عندما كان صغيرا، القضية شائكة أكثر من ذي قبل، والآمال تتلاشى أحيانا، ويحييها بصيص أمل هنا وهناك، خطيبة تنتظره في المخيم، ورزق في الغربة، ومستقبل لا يعرف تفاصيله، لكنه يدرك، أنه لن يكون مختلفا عن مستقبل الآلاف، الذين هاجروا رغما عنهم.

بعد يأس تغلغل في قلبه، يفتح الله له بابا، فيعبر إلى الأراضي المحتلة في 48، إلى أم الفحم، وهناك، عناق مؤجل منذ النكبة، عند باب بيت جابر، عناق لا تصفه الكلمات، يحضن رشدي والدته خضرة بعد أعوام طوال، وقد ظن أنه لا يلتقيها بعد ذلك اليوم الأليم الدامي، تحقق لرشدي حلم طال انتظاره، وبقي الحلم الأكبر، عودة الأرض إلى أصحاب الأرض.

في غمرة الأحداث، يُفتح له باب آخر، يُقبل بعد مراجعات وانتظارات في جامعة الباكستان، لكنه يمزق رسالة القبول، ويختار أرضه وأمه، تنتهي قصة رشدي – بالنسبة للجميع – بمعانقته للبندقية، عند هذه النقطة، يدرك المدركون أن القضية لا تزال مستمرة، وأن النهاية ليست بيد العدو والمتخاذلين والخونة أيا كانوا، ولكن، بأيدينا نحن، نحن أصحاب الأرض، لنا فيها تراب ومقدسات وأهل يمنعنا من الوصول إليهم عدو معتد، يؤيده العالم، ويخذلنا نحن.

بالنسبة لي، لم تنته الأحداث عند تلك الحلقة، كان ظهور “حاتم علي” وظهوره المتكرر في المناسبات واللقاءات، يحيي في نفسي أملا ويلهب فيّ عزما، أكاد أرى البندقية التي اعتنقها في الحلقة الأخيرة لا تزال في يده، يؤكد لي ذلك أن النضال لا يزال له رمزه المتمثل في “رشدي”، رشدي الذي نشأ وكبر وتغيرت الأحوال في كل مكان إلا فيه، لم يثنه تغيرها عن المضي في قضيته وتحقيق غايته.

عندما يرحل “حاتم علي” بصمت هكذا، كما عاش “رشدي”، يتسلل إلى الضعفاء أمثالي شيء من الأسى على ذلك الحال المستمر من القهر وسلب الحقوق، ثمة شعور متحفظ، رغم إدراكنا أن ذلك كله تمثيل ودراما كما يسمونها، شعور بأننا نعرف الرجل معرفة شخصية، وأننا لو التقينا فإننا سننطلق في أحاديث وتفاصيل وكأنه ليس لقاءنا الأول، هذا الشعور، صنعه حاتم علي، بشخصية رشدي أولا، وإخراج حاتم علي ثانيا، وبإخلاص نادر في هذا الزمان، نحسبه كذلك، جعل ذكره في الناس يعلو بالدعوات والرحمات، حبا له وعرفانا، وحزنا على ذلك الرحيل الصامت.

رحم الله المخرج المناضل حاتم علي، وكتب له قبولا في السماء، أعظم مما حاز من قبول في الأرض.

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني