الحكاية

أذكر ذلك اليوم وكأني حاضر فيه الآن، كنت حينها، ذلك الطفل الذي يحمل المقص، ليقص راعي الحفل – وزير العدل والشؤون الإسلامية السابق رحمه الله – شريط المهرجان، مهرجان كبير استمر أسبوعا، شاركت فيه جمعيات ومؤسسات متنوعة الأهداف والأطياف، ومؤسسات حكومية أيضا وسفارات عربية وإسلامية، كان علم فلسطين مرفوعا في كل زاوية وعلى كل جدار، الكوفية الفلسطينية يكاد حضورها يطغى على حضور الغترة أو الشماغ، فلسطين، جمعت كل هؤلاء من أجل قضيتها.

مدرستنا الابتدائية أيضا، أقامت مهرجانا بموافقة بل وبدعم من وزارة التربية والتعليم آنذاك، أسمته مهرجان فلسطين، كنت في الصف الأول الابتدائي، تزامن ذلك مع الانتفاضة الأولى التي سميت (انتفاضة الحجر)، أذكر أن أخي أنشد في الطابور الصباحي مع زميل له أنشودة حوارية عن فلسطين، عنوانها “الطفل الحائر”، ثم أقيمت مسابقة جماهيرية، كل الأسئلة التي سئلت فيها كانت عن فلسطين، وأنا وسط تلك الجماهير أرفع يدي أريد الإجابة على ذلك السؤال، انتبهت لي الأستاذة مشرفة المسابقة فأشارت إليّ من بعيد، انطلقت وأنا أصرخ بالإجابة: أمريكا، أمريكا، صفقت لي المشرفة وصفق الطلاب جميعا، كان السؤال عن الداعم الأول للكيان الصهيوني، أمريكا، هل يخفى على أحد ذلك؟

مضت أعوام ستة ووُقعت اتفاقية أوسلو، وقفت مع مجموعة من الطلاب في احتفال آخر، لننشد نشيدا عن القضية، إنه نفسه ذلك النشيد، الطفل الحائر، لم يكن لتلك القضية أن تخبو نارها في قلوب الصغار فكيف بالكبار؟ كنت مقبلا على المرحلة الإعدادية، أذكر أخبار توقيع الاتفاقية، وغزة وأريحا، والحسرة في القلوب، والحوارات التي تدور بين الكبار في البيت والمسجد والحي، في كل مكان، ما أخذ بالقوة، لا يسترد بغير القوة، كانت هذه خلاصة كل الحوارات.

نشيد الطفل الحائر

بعد انتهاء الدرس في سنتي الجامعية الأولى، بدأ أستاذنا كعادته يبادلنا أطراف الحديث، ليس حديثا مجدولا، ولكنها أحاديث الوقت المتبقي، موضوع مختلف في كل مرة، كان ذلك الأستاذ محبا لثقافتنا العربية، فضوليا بشأنها جدا، الأستاذ باولو، كندي من أصول إيطالية، طيب وبشوش، سهل التعامل لا يجد بأسا في أي طلب نطلبه منه، إلا أن يصرفنا من المحاضرة قبل انتهاء الوقت.

في ذلك اليوم، بدأ السيد باولو بالسخرية من هزيمة ذلك النادي الضيف، واحتفل بفوز النادي العريق الذي يشجعه الصغار والكبار في المنطقة، لا شك أن احتفاله ذاك سيسعد المهتمين، لكن احتفالات الأستاذ باولو خابت خيبة غير متوقعة، لم يتفاعل مع حديثه أحد، ساد الصمت ثوان، ثم قطع الصمت جرير، صديقنا الأردني النبيل: هل تعتقد أننا نستطيع الاحتفال، في الوقت الذي يحدث فيه هناك ما يحدث؟

قبل يوم أو يومين فقط من تلك المحاضرة، كانت الأخبار تضج بقصة ذلك الطفل الذي استشهد أمام أعين العالم، محمد الدرة، رأينا جميعا والده يستنجد فيما يستمر الجنود الصهاينة في إطلاق النار متجاهلين توسلات الأب وصرخات الطفل، استشهد محمد الدرة أمام أعين العالم، وبقيت صورته شاهدة على إرهاب ذلك الكيان الغاصب المحتل حتى هذا اليوم وبعد عشرين عاما من الحدث، كان ذلك إبان انتفاضة الأقصى الثانية.

احترم الأستاذ باولو رأي جرير الذي يمثل رأينا جميعا، وأبدى تعاطفه مع ذلك الفتى، ولكن ماذا نستطيع أن نفعل؟ وقف له أحد الزملاء من أهل البلد، اسمه سهيل: لو كان بأيدينا، لخرجنا جميعا لنصرة المظلوم واسترداد الحق المسلوب! قال باولو: هل ستذهب للقتال حقا؟ صرخ سهيل: أنا وأبي وإخوتي، حتى جدي سيخرج للقتال بعصاه وعرجته، وهل يُسترد الحق إلا بالقتال؟

لم أكن يوما محبا للتجمعات والفعاليات الجماهيرية، ولكني خرجت أحمل علم فلسطين مع آلاف الناس عندما أقدم الكيان الصهيوني الغاصب على قتل الشيخ أحمد ياسين قصفا بالطائرات! شيخ مقعد يعود إلى بيته من صلاة الفجر، يرعب كيانا مزودا بأعتى أسلحة الأرض، مدعوما من أكبر القوى العالمية، وقفنا صفا واحدا، نهتف هتافا واحدا، نحمل علما واحدا، علم فلسطين، في تلك المسيرة توحدت الأطياف والمذاهب والتوجهات والآراء، الكل هناك يرفض الإرهاب الصهيوني ويندد به، ويترحم على شيخ المقاومة الشهيد، ويبارك كل خطوة للثأر من القتلة.

الخط الزمني لعلاقة المحبة التي تربطنا بفلسطين، يتزامن بل يتطابق تماما، مع الخط الزمني لعداوتنا مع الكيان الصهيوني وحربنا معه، قدمتُ إلى هذه الحياة ونشأت وتعلمت وأدركت، أن قضية فلسطين مرتبطة ارتباطا وثيقا بالضمير الحي في داخلنا، بعقيدتنا وانتمائنا وآمالنا التي كبرنا عليها، بأحلامنا، بتلك الفرحة التي لم تكتمل، بذلك القلب الذي يطير حبا كلما صورة ظهرت لنا من ساحة الأقصى أو شوارع القدس وأحيائها، بالعلم الذي رفعناه صغارا والشعارات التي هتفنا بها، بالخريطة التي زينت جدران منازلنا، بالدعوات رددناها في الصلوات، بالرسومات والكتابات والقراءات التي تبادلناها في طفولتنا وصبانا.

فلسطين، هي الحكاية التي أنصتنا لها صغارا، وينصت لها أبناؤنا اليوم، هي القضية التي آمنا بها إيمانا صادقا، يراد لنا بعد كل هذا العمر، أن ننكر أنفسنا وننسى أمسنا ونهجر أمانينا، نهاية الحكاية، لن تكون إلا بما يوافق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم، والغلبة لن تكون إلا لأهل الحق، هذا هو إيماننا الذي تربينا عليه، وعليه نربي أبناءنا والأجيال القادمة.

10 سبتمبر 2020
انشر الرابط