صاحبة السعادة

إنه يومي الأول في تلك المؤسسة، تشاركني المكتب زميلتان، أم شوقي التي تعد نحو التقاعد الأيام والساعات، ونهلة التي سبقتني إلى الوظيفة بأشهر فقط، لكنها كانت تدعي منذ اللحظة الأولى، أن كل خير في تلك المؤسسة كان بفضل جهودها في التغيير، وأن كل سوء كان بسبب رئيس القسم الذي لم يقبل اقتراحاتها للتغيير.

أما المدير فقد كانت تثني عليه وفي كل وقت، ثناء أشبه بدوران العجلة، يبدأ فلا ينتهي: مديرنا هو المفكر الطموح، والطيب النصوح، الذي ظلمته الظروف إذ جعلته في هذا المكان، هو، يستحق أن يكون في شأن أكبر بكثير من مجرد مدير! مجرد مدير؟ الجميع هنا يعلمون أن سن التقاعد أقرب إليهم من بلوغ ذلك المسمى، ليس مهما ما تقول نهلة، المهم، أن ذلك المدير غادر المؤسسة إلى أخرى بعد شهر من انضمامي للفريق، علمت بعد سنوات أنه خالها.

ذلك المكتب الذي جمعني بالزميلتين، كانت له حسنة كبرى، أنه مؤقت، وأننا سننتقل منه خلال أشهر عندما يفتتح مقر المؤسسة الجديد، مرت تلك الأشهر وافتتح المقر الجديد، وعندما انتقلنا إليه كانت أم شوقي قد وصلت إلى نهاية العد الذي بدأته من قبل، وتقاعدت، أما نهلة، فقد كان جوارها قدرا يرافقني وظلا يتابعني، نعم، لا يزال المكتب الجديد يجمعنا، أنا ونهلة، وعلي أن أصغي لأحاديثها النرجسية منذ مطلع النهار وحتى نهاية اليوم: “أنا مصدومة جدا، كنت أرجو أن يكون لي مكتب خاص تقديرا لأقدميتي هنا (المقدرة بأشهر كما أسلفت)”، ضاقت بوجودي، واضح ذلك جدا، “هل كنت تعلم أن هيكل المؤسسة يضعك تحتي في التسلسل الوظيفي، ولكن رئيس القسم لم يرد لي أن أكون مشرفة، يأتمر بأمري الموظفون؟” عني تتحدث نهلة!

ذات مرة، وهي تلهج بحمد نفسها، بدا لي أنها أرادت أن تولي بعض من يعز عليها شيئا من الثناء، تحدثت عن بعلها – فرج الله عنه – وأشارت إلى مهاراته وذكائه ونبوغه وتميزه في كل شيء، وبعد استطراد في ذكر محاسنه وجميل خصاله، وجدت فرصة لسؤالها عن اسمه الكريم، فإذا هو زميل سابق في المؤسسة التي قدمت منها! وإذ بكلامها كله تفنده معرفتي السابقة به، غفر الله لنا وله.

جاءت صبيحة يوم وابتسامتها طوّقت مشرق المكتب ومغربه، في يدها صحيفة من تلك الصحف التي لا يقرؤها إلا قلة ممن نسأل الله أن يعينهم على ما ابتلوا به، ألقت بها على مكتبي وهي تقول: قرأت الصحيفة اليوم؟ قلت لها: لا، لا أقرأ الصحف ولله الحمد، قالت: في صحيفة اليوم مقابلة مع والدتي، رائدة الأعمال التي أسست عدة مشاريع في البلد ولا تزال مستمرة في عطائها، وهذه صورتها مع والدي، والدي مدير أيضا في الوزارة التي لا تخفى عليك.

أنعم وأكرم، حفظهما الله لك وحفظك لهما، اللهم لا حسد، رائدة أعمال، ومدير في وزارة، وفوق كل هذا النصيب من رب العالمين، بنت مثل نهلة! ماذا يريد الآباء أكثر من هذا؟

مرت الأيام، واستجاب الله دعائي، قررت الإدارة نقلي إلى قسم آخر ومكتب آخر، ومدير جديد ومهام أخرى جديدة أيضا، بعد هذا القرار، سيتغير كل شيء بلا شك، الزملاء والمكتب وطبيعة العمل، والمدير، تغيُّر المدير يعني تغير كل شيء، إما للأفضل، أو للأسوأ، الانتظار وحده يفصلني عن النتيجة.

طلب المدير – الأستاذ فاضل – حضوري للتعارف، كما يفعل المدراء دوما، دخلت عليه فهب واقفا، مد يده مصافحا، ورحب ترحيبا رائعا، ثم دعاني للجلوس، وبسط أمامه مجموعة من الأوراق والخطط، ثم قال: أظن، أن بإمكاننا تغيير هذا، ثم سحب ورقة أخرى وبسطها فوق كل تلك الأوراق السابقة وأكمل: إلى هذا! الخطط السابقة كانت موروثة من الإدارات السابقة، أما الورقة التي وضعها في المقدمة، فهي خطة جديدة عمل عليها مع فريق متكامل من المؤسسة ومن خارج المؤسسة، بدا لي أنه يرغب في تطوير العمل حقا، أعطاني الخطة الجديدة، وطلب مني النظر في تفاصيلها وإضافة ملاحظاتي، كنت جديدا على الحياة العملية، أصغر من أن يؤخذ لي رأي، ولكني سعدت جدا بطريقته في التعامل، لم أملك ألا أقارن بين ذلك الصخب الخاوي الذي جئت منه، والهدوء المليء بالجد، الذي حللت فيه.

بعد أشهر من عملي مع الأستاذ فاضل، وأثناء أحد الاجتماعات مع الفريق، حتما تعرفون من فاجأنا بمقدمه! إنها نهلة نفسها، مشت على رجليها وقدمت بجليل قدرها إلى حيث أنا، دخلت فتوقف الاجتماع، إذا لم يتوقف الاجتماع لقدوم نهلة، فلمن يسعه أن يتوقف إذن؟ تفضلي، بادر الأستاذ فاضل بالترحيب، قالت: سمعت عن المشروع الذي تعملون على إنجازه، وأظن أني أستطيع المساعدة، رحب بها الأستاذ فاضل واعتذر بأدب: يشرفنا ذلك ولكن الفريق مكتمل الآن، قالت وهي تمد يدها بورقة ملفوفة مثل صكوك المنازل البائدة: تفضل. فرد الأستاذ فاضل الورقة، وتطلع فيها مليا، ثم رفع رأسه: هذه توصية من السيد عبدالحكيم، السيد عبدالحكيم، هو والدك؟ قالت والابتسامة تملأ وجهها، حتى اختفت عيناها تحت خديها: نعم، أبي خبير في مثل هذه المشاريع كما لا يخفى عليك! وضعت رأسي بين كفيّ، والأمل بسماع رفض التزكية يكاد يكون منتهى أملي في تلك اللحظة، لست مستعدا للعودة إلى تلك الأحاديث والسخافات عن أمجاد أبيها وريادة أمها ووسامة زوجها، أرجوك يا أستاذ فاضل، لا تخيب ظني في فراستك.

طوى الأستاذ فاضل الورقة وأعادها وهو يقول: لا تهمنا خبرة الآباء هنا، نحتاج لخبرة الأعضاء، استأنف الأستاذ فاضل حديثه: بالمناسبة، قضى والدي عمره منظّفا في المدرسة الثانوية التي درست فيها منذ وعيت الحياة وحتى أتممت الجامعة، وانتقل إلى رحمة الله قبل أن يتقاعد، فخور أنا بوالدي جدا، ثم التفت نحونا وقال: اعذروني يا رفاق، هذه الفقرة ليست ضمن جدول الاجتماع، شكرا لزيارتك يا نهلة، سنلتقي مجددا لأحكي لك المزيد عن والدي، رحمه الله.

6 سبتمبر 2020
انشر الرابط

تعليقات

  1. شركة تسويق الكتروني 28 فبراير 2021 at 7:13 م

    قصة رائعة و طريقة كتابته شيقة

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني