دُوسْت

أنهيت المحاضرة الأخيرة ذلك اليوم، وتوجهت إلى موقف الحافلات للعودة إلى السكن الجامعي، ظننت أن الحافلة المتجهة إلى السكن قد غادرت، فسألت أحد المشرفين هناك، كان يقرأ الجريدة، الجريدة في يد، والسيجارة في اليد الأخرى، أشار بالسيجارة نحو غرفة السائقين وقال: دوست!

كنت جديدا على المكان آنذاك، وفي كل يوم كنت أفاجأ بكلمة جديدة ومفردة لم أسمع بها من قبل، لكن هذه الكلمة لم يكن لها تصريف يساعدني على استنباط معناها، سألته مرة أخرى: عذرا، لم أعرف قصدك! رفع رأسه أخيرا وقال: آه، أنت جديد إذن، لا تعرف دوست، تعال معي.

تبعته والعجب بلغ ذروته، ما ذلك الأمر الذي يعرفه الجميع وأجهله أنا! دخل إلى الغرفة وأنا أسترق النظر من خلفه، صرخ بأعلى صوته: دوست، هذا طالب جديد هنا لا يعرفك! شيخٌ عظيم الجسم بلحيةٍ بيضاء طويلة، يضع نظارة ويلبس لباس الأفغان، نهض من مكانه فورا وهو يقول: ما شاء الله ما شاء الله، السلام عليكم، كيف (خالك)؟ رحب بي ترحيبا مميزا، وكأنّه المعنيّ بالتشريفات في الجامعة، أو المسؤول عن العلاقات العامة، هو سائق لإحدى حافلات الجامعة التي تقلّ الطلاب من مقر الجامعة إلى السكن الطلابي ذهابا وإيابا، أكثر من عشر مرات كل يوم.

الوقت الذي تحتاجه الحافلة للوصول من السكن إلى الجامعة أو العكس، لا يتعدى خمسا وعشرين دقيقة، كان دوست يملأ هذه الدقائق بأحاديث ودروس وقصص، لا يمكنني نسيانها حتى هذا اليوم رغم مرور عشرين عاما على معرفتي به.

الحافلة التي يقودها دوست، كانت حافلة السعد لركابها، نتفاءل جميعا باليوم الذي يبدؤه لنا دوست بتحاياه وتراحيبه، ينطلق بحافلته من السكن الطلابي متجها إلى الجامعة، وينطلق في الوقت نفسه متحدثا بعربية بسيطة مكسّرة، يعطي دروسا ومواعظ قد تكون بديهية، ولكنها طريفة خفيفة، مفيدة وعزيزة علينا، إذ كنا نجد صدقَه فيها، حتى أنّه قد يرفع قميصه أحيانا ليمسح دمعته التي سالت من تأثره بما يقول.

كنا ننتظر الحافلة مرة، وحان وقت الانطلاق، لكن أحد الطلاب أتى متأخرا، يجري بما استطاع يريد اللحاق بالركب، أوقف دوست الحافلة، ولكن الطالب من عجلته تعثّر عند الباب، ضحك بعض الطلبة، فالتفت إليهم دوست بنظرة فيها من العتب والتأنيب ما فيها، ثم أشاح بوجهه وهو يقول: أستغفر الله!

تحركت الحافلة وانطلق دوست محدثا الجميع: سقط صاحبكم، فماذا حصل؟ وأيّ بأس في سقوطه؟ أي شيء يُضحك؟ ألم يسبق لك أن سقطت؟ ألم تخطُ خطواتك الأولى فتسقط؟ هل كنت ستمشي واثقا كما أنت اليوم لولا سقوطك بالأمس؟ أليس الأحرى بنا أن نمد أيدينا للمساعدة، بدلا من التفرج والضحك على عثرات الآخرين؟ الحياة ملأى بالسقطات والزلات والعثرات، وذات يوم سيسقط أحدكم، فإن هو أعطى للضحكات من حوله اهتماما وقدرا، فإنه وإن نهض من سقطته تلك، سيظل حبيس نفسه وأسير أمسه، الذنب ليس ذنبه وحده، الذنب ذنب الجميع، نحن لا نعين بعضنا رغم أخوتنا، بينما يفعل ذلك المخطئون، لمثل ذلك، تجدون أصواتهم في كل مكان أعلى من أصواتكم. انتهى كلامه.

الحافلة التي يقودها دوست، تتوقف لكل ماشٍ في الطريق، يفتح باب الحافلة ويرحب به ثم يعده بإيصاله، إن كانت وجهته على طريق الجامعة فالأمر بسيط، وإن كانت غير ذلك، فإنه يوصله إلى أقرب نقطة يكمل بعدها طريقه، فإن ترجّل الراكب الضيف من الحافلة، انطلق دوست في موعظة سمعناها مرارا، عن الخير الذي يضعه الله لك على الطريق، يريد لك أن تستفيد منه لآخرتك، يسوقه لك دون جهد منك، كيف لك أن تفرط فيه؟

ركبنا معه مرة بعد امتحان قاس جدا، أخذ كل منا موقعه، وبقينا صامتين كأن على رؤوسنا الطير، نظر إلينا دوست من المرآة الأمامية ثم قال: امتحان؟ قلنا نعم، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، امتحان واحد! يأتي بعده امتحان أفضل بإذن الله، أتى قبلكم أجيال كانوا في مثل موقفكم هذا، وقد مضوا في حياتهم كما أحبوا لأنفسهم، وسيمضي هذا الفصل أيضا، لا تقلقوا، ولكن، لا تغفلوا عن امتحان أكبر وأقسى من هذا الذي أحزنكم، لا تغفلوا، إياكم أن تغفلوا عنه! ثم أخذ طرف قميصه، ومسح به خده.

دوست، ذلك الشيخ البسيط، بعربيته الضعيفة، استطاع بقلبه الكبير أن يكسب محبة الجميع من الزملاء والطلبة، ماذا فعل ذلك الرجل ليحظى بكل تلك المحبة؟ ليس غير الصدق، الصدق في داخله، تصدّقه الأفعال، محبته للجميع يعكسها على أفعاله وابتسامته ونصائحه، حتى استهتار الشباب وتماديهم في بعض الأمور، كان يقابله دوست بمحبة ونصيحة صادقة، لا يجد أحدهم بدا من الإذعان لها وقبولها، الرسائل التي يرسلها في كل موقف، الربط العجيب لكل شيء بالخير والبر والآخرة ومراقبة الله، كل ذلك، يجعل من دوست رجلا عظيما، يستحق أن افرد له هذه الصفحة، فيدعو له كل قارئ يمرّ من هنا.

26 أغسطس 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني