هذا ما حصل!

كان من بين المقررات المفروضة علينا في الجامعة، مجموعة من المقررات التي ما وُضعت إلا لملئ الخطة الدراسية ورفع عدد الساعات المعتمدة، ليست مفيدة للطالب، ومرهقة للأستاذ، لا يستطيع طرح مضمونها بشكل من الأشكال، نعرف ويعرف أنه يسيّر الأمور لينتهي من أداء واجبه فقط، فنجتاز نحن ما توجب علينا اجتيازه.

حرصت على تأجيل مقرر عنوانه: أخلاقيات الحوسبة ومعايير النجاح (إن صحت الترجمة) حتى السنة الأخيرة، كنت آمل أن تعيد عمادة الكلية النظر في بعض المقررات فتلغيها أو تستبدلها، ولكن ذلك لم يكن، أقبلت عليّ السنة الدراسية الأخيرة ومعها كل المقررات المؤجلة لأسباب تحوم حول ذلك الأمل، أحد الزملاء نصحني بتسجيل المقرر عند الدكتور رشدي، الذي درس عنده في الفصل السابق مقررا آخر فكان – حسب تقييم زميلي – متمكنا ملمّا بالمادة، بالإضافة إلى خفة دمه وروح الدعابة التي يتحلى بها، ماذا أريد أكثر من ذلك؟

بدأنا مقررنا مع الأستاذ رشدي، وكان كما أخبر زميلي، عبقريا متفننا في طرح الدروس، يحفظ أرقام الصفحات وترتيب أسطرها، أما خفة الدم عنده فأمرها آخر، كنا على موعد مع مسرحية كوميدية في كل محاضرة، هو بطل المسرحية طبعا، أما الممثل الثانوي فهو سيء الحظ الذي يقع الاختيار عليه، لا يضرب الأستاذ رشدي مثالا إلا وأسقطه على ذلك المسكين، يوجه له الأسئلة ثم يرتجل النكت والطرائف من إجاباته، مسرحية كاملة، لا ينقصها غير الستار، والتصفيق وانحناءة الممثلين في نهاية المحاضرة..

على غير عادته، دخل الأستاذ رشدي للمحاضرة يوما وألقى التحية ثم جلس، دخل أحد الزملاء متأخرا فسلّم ليرد الأستاذ السلام فقط! الوضع كان مريبا جدا، كان الأستاذ رشدي قبل ذلك يرد السلام بأغنية يعزف إيقاعها بنفسه، أو يطلق على المتأخر لقبا لا أدري كيف يبتكره، يستمر ذلك اللقب حتى نهاية المحاضرة، ثم تُفتح بعده صفحة جديدة، قام بتسجيل الغياب، ثم قلب بعض الأوراق، وهب واقفا أمامنا وقفة لم تكن معتادة منه أبدا.

قال الأستاذ رشدي في مستهل محاضرته: اليوم، يوم مختلف، ودرس اليوم مختلف، أرجو أن يصغي كل منكم باهتمام وتركيز، لا يكتبن أحدكم شيئا، أعيروني أسماعكم وقلوبكم ساعة فقط.

ثم قال: المهنة أمل كل عاطل، فمن حازها منكم فقد تحققت له أمنية، وارتقى في سلم الحياة خطوة، المهنة، ليست وظيفة يقدمها لك رب عمل ما، ولكنها مصدر الرزق الذي تفتح به بيتا، وتنشئ معه أسرة، وتصبح المسؤول الأول عمن جعلهم الله أمانة عندك، أما شروط الحصول فأنتم بها أدرى، وأما شروط الاستحقاق فهي ما وقفت اليوم أحدثكم به.

المهنة هي الأمانة، حتى وإن كنت رب عملك وصاحب مشروعك، المهنة تبقى أمانة، والأمانة تقضي تأدية العمل على أكمل وجه، وإتمامه بأفضل صورة، الأمانة، أن تراقب الله في كل شيء وضعه بين يديك، أن تضمن ألا يتسرب الحرام إلى جيبك، أن تحسن إلى زملائك وأقرانك، توقر كبيرهم وترحم ضعيفهم، الأمانة أن تترك عند الناس حولك أطيب ذكر وأعطر سيرة، فإن مضيت فآثار خير تدل عليك، وإن بقيت فأنعم بك من صاحب وزميل.

انتهت المحاضرة، وبقيت آثارها عندنا جميعا، كان يوما استثنائيا، لم يتكرر من قبل ولا من بعد، الأستاذ رشدي عاد بعد ذلك إلى طبيعته، لو أنه ألقى ذلك الدرس بأسلوبه المعتاد لكان الدرس مثل الدروس الأخرى، لكنه استطاع أن يخلّد تلك المحاضرة في أذهاننا عندما أبدى لها كل ذلك الاهتمام وأفرد لها أسلوبا خاصا، تأكيدا منه على أهمية الموضوع.

أنهينا المقرر وتخرجنا من الجامعة، وبقيت نوادر الأستاذ رشدي في ذاكرتنا، نكررها ونستعيدها كلما تحدثنا عن الجامعة وأيام الجامعة، وبقيت خطبته تلك نقطة فاصلة في ذكرياتنا معه، لا بد لنا من التعريج على مضمونها وفوائدها كلما عادت بنا الأحاديث إلى ذكراه.

زرت الجامعة بعد التخرج بسنوات، أردت زيارة الأساتذة الكرام والأستاذ رشدي طبعا، اتفقت مع أحد الزملاء المقيمين هناك على تلك الزيارة ومضينا سويا، نستعيد أجمل الأيام، ألقينا التحية على الأساتذة وأعضاء القسم والموظفين من عرفنا منهم ومن لم نعرف، ولم أجد الأستاذ رشدي، أردت أن أسأل عنه في القسم فمنعني صاحبي، مما أشعل الفضول في داخلي.

بعد المغادرة، سألت صاحبي عن الأمر، فأخبرني، أن الأستاذ رشدي أسس مركزا للتدريب الاحترافي خارج الجامعة، واكتسب من ذلك المركز سمعة وإقبالا كبيرا، وبعد تحصيل المبالغ الطائلة من المتدربين، ترك المركز وموظفيه والجامعة وكل شيء، وغادر البلاد بما حمل من متاع وأموال.

هذا ما حصل، أو، هذا ما سمعت أنه قد حصل، والحقيقة علمها عند الله..

19 أغسطس 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني