نافذةٌ

وصلت إلى تلك المدينة بعد منتصف الليل، السكون يخيّم على المكان، والصمت لغة التخاطب السائدة، سائق السيارة يحاول أن يكسر ذلك الصمت قدر استطاعته لتأدية بعض واجبه، يتحدث عن التطور الذي وصلت إليه البلاد، وعن السبق في كل شيء، عن فخره بانتمائه، عن حبه للثقافات المتوارثة وتمسكه وأهل بلده بهذه الثقافات العريقة جدا، جدا.

لم أكن أعطي أحاديثه اهتماما، هؤلاء السوّاق الذين يستقبلوننا في المطارات، سفراء لبلدانهم، يتحدثون كثيرا بهدف كسر الحواجز بيننا وبين الأرض التي حللنا بها، من أجل أن يكون انطباعنا الأول “إيجابيا”، ولأن الوقت لم يكن وقتا مناسبا لتبادل الأحاديث، فإن إيجابيته تلك لم تكن لتفلح معي.

دخلت إلى الغرفة التي اختارها لي موظف الفندق، غرفة مميزة لا يحظى بمثلها إلا زبون مميز كما زعم، بعد ثوان من دخولي، طرق أحدهم الباب، فإذا بأحد موظفي الفندق يكرمني بوجبة فطور مميزة هدية من إدارة الفندق، كان ذلك قبيل شروق الشمس، أعجبتني الفكرة جدا، سيسمح لي ذلك بتمديد قسط الراحة، وهل يزهد أحدنا في شيء من الراحة؟

جلست، أريد تناول الفطور عند نافذة الغرفة، لم تشرق الشمس بعد، مشهد في الخارج جعلني أتوقف عن كل شيء، وأتأمل ما يحصل هناك في الظل، تحت ذلك الجسر بالقرب من الفندق.

كان أحدهم واقفا، وأمامه طابور من الأطفال، يتقدم إليه أحدهم، يأخذ كيسا وصندوقا، ثم يتوجه ناحية الحافلة، غادرت الحافلة، وليس فيها ركاب سوى أولئك الأطفال.

عاد الموظف بعد دقائق، فسألته عما رأيت، لم يكن سؤالي مستغربا بالنسبة له، إما أن يكون قد اعتاد أن يُسأل هذا السؤال، أو أنه اعتاد ذلك الحال، أخبرني، أن هؤلاء الصغار مشردون لا أهل لهم ولا بيت، أو ربما يكون لبعضهم أهل تخلوا عنهم بسبب الفقر، يستغلهم البعض في الأعمال التي يترفع عنها الناس، بمقابل لا يذكر، لكنه يشكل فارقا بالنسبة لهم، المقابل قد يكون طعاما أو دراهم تؤمّن وجبة اليوم، أو كساء أو غير ذلك.

وهل يسمح القانون بمثل هذا؟ سألته وعقلي لا يستوعب ما رأيت، ضحك من سؤالي، وجد فيّ مغفلا لا يدرك الحقيقة المرة التي تحكم هذا الكوكب، ضحك من بُعد الطرف الآخر الذي أعيش فيه، حتى خفي عليّ ما يحصل في الطرف المقابل: أي قانون يا سيدي؟ ألا يحتاج تطبيق القانون إلى نزاهة واستقامة وضمير؟ هل تظن الضمير يعمل دون ثمن؟ لو أراد أحد أن يوقظ الضمير من سباته، لهرع إليه ألوف الفاسدين، من أجل أن يدوم سبات الضمير، إن في حل مشكلة هؤلاء تعدّ على مصالح الفاسدين الطامعين، الذين يتحدثون باسم هؤلاء ويزعمون أنهم يدافعون عنهم، ثم يستفرد كل منهم بالخيرات لنفسه، فلا يصل منها شيء لمن يستحقها.

يواصل حديثه: الحال الذي رأيته من هذه النافذة، قد يكون أهون الأحوال على هذه الأرض، لا يغرنك حديث الفخر الذي يملأ الأفواه، الكل هنا ناقم على نفسه وأهله وحتى وطنه، ماذا سيفعل ذلك الصغير بتمثال أو قصر أو أثر من التاريخ، وهو لا يعلم إن كان له في الغد نصيب أم أن الجوع سائقه إلى حتفه قبل الغد؟ نحن لا نؤمن إلا باليوم، نعمل من أجله، من أجل أن نصل إلى نهايته، فإن خيم الليل، تسلل الرعب إلى قلوبنا خوفا من الغد، ماذا يحمل لنا ذلك الغد، وأي شيء يخبئ في ساعاته؟

لم أستطع تجاهل المشهد طوال إقامتي في ذلك المكان، حاولت جاهدا ألا أقترب من النافذة مجددا، ثم وجدتني أستصغر نفسي، ألهذا الحد، بلغ بي الخوف من الحقيقة والهروب من واقع مظلم لا أبعد عنه سوى خطوات!

نؤمن أن الله قسّم الأرزاق، ولكننا نؤمن أيضا أنه خلق الموت والحياة “ليبلوكم أيكم أحسن عملا”، ليس من حسن إيماننا بالله تعالى، أن نبرر الفساد بقسمة الأرزاق، ليس لتشرد أولئك شأن بالرزق، إنما هو عمل غير صالح اقترفه المفسدون ممن جعلهم الله على رؤوس الخلق مسؤولين عنهم مؤتمنين عليهم، حارب الفساد بيدك، بلسانك، بقلبك، اقتله قبل أن يصل إليك وإلى بنيك وأهلك، ولا تنس في خضم هذه الحرب، أن تحمد الله على أنعمه وأفضاله، فبالحمد، تدوم النعم.

28 يوليو 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني