عودة إلى الماضي

لي صاحب قديم جدا، متعه الله بذاكرة قوية يسترجع معها تفاصيل الأمور التي لا تهم أحدا، يتحدث عن موقف قديم جدا، فيسرده بتفاصيله الدقيقة التي تجعلني أرى الموقف أمامي وكأنني كنت حاضرا فيه.

يحكي قصصا وطرائف حصلت ويدعي أنني كنت جزءا منها، والويل لي لو حاولت تكذيبه، لا يتوانى في إحضار الأدلة والاتصال بمن شهدوا القصة، ثم يغوص في عمق التفاصيل أكثر فيحرجني أكثر، حتى أستسلم وأعترف، خوفا من خوضه في المزيد.

الحديث الذي يتطلب ذكره دقيقتين، يحتاج صديقي لسرده ساعات، التفاصيل، تأخذ المساحة الأكبر من أحاديثه، ذكرياته ملأى بالتفاصيل والدقائق، أنسى أسماء بعض الشخوص فأتصل به، يذكر الاسم الكامل، وربما يقلده في أسلوب كلامه، أو ينطلق في الحديث عن مناقبه ومواقفه وصفاته الحميدة وغير الحميدة، ذاكرة، لا أدري إن كانت نعمة عليه، أم نقمة علي!

عندما أحن لبعض الأيام، أتصل به لنخرج سويا، أبدأ الحديث ثم أترك الباقي له، أجد نفسي في بعض الأحيان محتاجا للعودة إلى ذلك الأمس، وصاحبي هذا يعينني على سد تلك الحاجة، سألته مرة، هل هذه الذاكرة بالنسبة لك، نعمة أم نقمة؟ هل تسعدك أم تؤذيك؟

سألته السؤال، وكأنني خلقت حوله أبوابا لا يدري من أيها يدخل ثم من أيها يخرج، أبواب تتلوها أبواب، وحديث يتبعه حديث، كانت خطتنا أن نلتقي دقائق أو بعض ساعة، ولكن الحديث أطال بنا اللقاء حتى منتصف الليل، كان يتحدث عن بعض السير والمواقف والقصص، فإن كانت سعيدة تهلل وجهه سعادة وبشرا، وإن كانت غير ذلك، تهدج صوته وحشرجت في جوفه كلماته، حتى أشفقت عليه وتمنيت أني لم أسأله.

ماذا تفعل بنا ذكرياتنا؟ ماذا تصنع بنا أيامنا الماضية؟ إننا نستدل بها في طريقنا اليوم كي نمضي فيه نحو الغد، فإن تشابه علينا أمر مع أمر كان، استرجعنا معه كل الذي كان، نحاول أن نربط الأمور، تارة يصح ربطنا وتارة يخوننا ذلك الربط، تصنع بنا ذكرياتنا أكثر من ذلك، نجد أحيانا من يكرر خوض التجارب أو يعيد نفس الأخطاء، فكأنه شريط يدور أمامنا، يعرض علينا أنفسنا وأخطاءنا وأمسنا، نهبّ أمامه نريد منعه من الوقوع في نفس الخطأ، إنها ذكريات مضت لا نريد لها أن تعود، أو، هي درس لا نريد لفائدته أن تظل حبيسة قلوبنا وعقولنا فقط، بل نريدها أن تتعدى إلى الغير فيعم نفعها الآخرين.

نتمسك بزجاجة العطر القديمة لأن عبقها يعيدنا إلى أمس نحبه، ونزهد في أخرى لأنها تذكرنا بما لا نريد تذكره، نتصفح الدفاتر القديمة، والرسائل والكتب والقصاصات، فإذا بنا نخرج عما جئنا لأجله إلى أمسنا، يتبدد الوقت في خضم الذكريات، جميلها وأليمها، ماذا تفعل بنا الذكريات، حقا، ماذا تفعل؟

بعد سبعة وعشرين عاما، وجدت صديقا قديما على أحد مواقع التواصل، لم ألتق به منذ المرحلة الابتدائية، وقد كان صديقا مقربا وصاحبا طيبا، سعدت سعادة كبرى، تذكرت أيام الطفولة والبساطة في مدرستنا الابتدائية، المواقف المضحكة وغيرها، وحواراتنا البريئة التي لا تتجاوز اهتمام الصغير في تلك المرحلة، ماذا حصل بعد كل تلك الأعوام؟ كيف مررنا عبر الزمن إلى مرحلة أخرى مختلفة تماما، مليئة بالمسؤوليات والواجبات وقد كان أقصى ما يشغلنا، حل الواجب، وانتظار جرس الانصراف، اتصلت به وتحدثنا طويلا، فكنت بعد المكالمة أسعد مني قبلها، ربما، لأنه بطل في سجل الذكريات.

كيف نطير فرحا بصورة من سالف الزمان تقع بين أيدينا، نتأملها ونتفحص الوجوه فيها، حتى المكان، نتطلع فيه بل إليه، نود لو دخلنا إلى ذلك العالم من جديد، نعيش أيامه تلك كما كانت، نتخلى ولو قليلا عن حياتنا التي نعيشها اليوم بتطورها وأدواتها وكل ما فيها، ونعود إلى بساطة الأمس، بتلك الملابس التي نتشابه فيها جميعا، فلا ينظر أحد إلى مستوى الآخر، ولا يقيم أحد جهاز صاحبه أو سيارته، لم تكن المدينة الفاضلة تجمعنا حتما، ولكنها البساطة، لا تفاضل ولا تباهي، لا مجال لكل ذلك، هكذا تشير الذكريات.

أرأيت كيف يأخذك ذلك اللحن إلى مكان ما؟ أرأيت كيف يعود بك إلى زمان قديم، مع أصحاب لم تعد تعرفهم، وأيام خلت لم تعد تذكر منها سوى هذا اللحن؟ الرابط الذي يعيد إليك ما ظننت أنك قد نسيت، فإذا به حاضر لم يغب، يصنع اللحن ذلك، فتحيا به الذكريات.

عذرا، لا أحب لنفسي أن أتعلق بالماضي وكأن الحاضر لا جمال فيه، ولا أحب المبالغة في وصف جمال الأمس وكأنه ناصع لا سواد فيه، غير أننا جبلنا على بعض ذلك، على التأمل فيما لا نملك تغييره أو العودة إليه، وإن كان بإمكاننا اليوم أن نصنع بشأن ذلك من شيء، فإننا نستطيع فقط، أن نستفيد من دروس الأمس، لنصنع من حاضرنا الذي نعيشه اليوم، ذكريات مشرقة نسترجعها في قابل الأيام.

10 يوليو 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني