درسٌ لا يُنسى

في العام الدراسي الأخير، قبل التخرج بأشهر، عندما كنت أحصي الأيام والليالي المتبقية على ذلك التخرج المرتقب، لا أنام الليل إلا بعد شطب تاريخ اليوم في التقويم الذي جعلته أمام عينيّ دوما، كلما اقتربت من نهاية التقويم احتدم الحلم في مخيلتي حتى ظننت أنها لحظة الاستيقاظ، إنه حلم عظيم لكل طالب في المدرسة أو الجامعة، لا أستطيع الآن – بعد انقضاء الأعوام – التقليل من شأنه، وإن كنت أدركت بعد حين، أن الحياة مليئة بمثل ذلك الشعور، أو أكبر منه.

كنت أفرّ من محاضرات الساعة الثامنة فرار اليائس من القدر، ولأنه القدر، كان لا بد أن ألتقي به يوما، وقد حصل ذلك في هذا الفصل الذي أتحدث عنه، محاضرةٌ أبدأ بها يومي، مع دكتور قدِم إلينا من أقصى الغرب، لا يعرفنا ولا نعرفه، لا يفهمنا ولا نفهمه، كانت محاضرته ثقيلة عليّ وعلى أقراني، ولا بد من حضورها أملا في إتمام المقرر، من أجل التخرج المرتقب.

بذكائي المعهود، لاحظت قبيل منتصف الفصل، أن الدكتور المذكور لم يكن يهتم بالغياب ولا بالحضور، ولأن محاضرته كانت تحصيل حاصل، وأن حضوري معه لا يختلف عن غيابي، بل كان في غيابي خير وفضل إذ يمكنني ذلك من تمديد قسط النوم – وأي فضل بعد ذلك الفضل – قررت بعد هذه الملاحظة أن أعطي نفسي راحات بين الأسبوع والأسبوعين فلا أتكلف عناء الحضور، ولأن الذكي الحصيف لابد أن يقوّم أمره ويدرس نتائج عمله، كنت أستفسر من زملائي عن المحاضرة، فيزفّون البشارة أن الدكتور لم يسجل الغياب أيضا، لأعطي نفسي نقطة إضافية، والنقطة تُعوض بغياب إضافي طبعا.

يوشك الفصل على الانتهاء، التخرج يقترب رويدا، يتبقى لي بعد هذا الفصل، فصل دراسي واحد، وخفيف جدا، وبينما أنا في طريقي بمبنى الكلية، متوجها إلى محاضرة من المحاضرات، مررت بلوحة خضراء في أحد الممرات، أعرفها جيدا ولم أكن أقف عندها من قبل، لكنني قررت لسبب ما أن أتوقف عندها وأتأمل فيها، لأحصي أفضال ربي علي وما عافاني مما ابتلى به غيري من الخلق، هذه اللوحة هي “لوحة الإنذارات والحرمان من الامتحان“، اسمها وحده مفزع، أليس كذلك؟

وقفت أمامها وقفة المنكسر المتعاطف الحنون، وبدأت أقرأ الأسماء أمامي، حتى وصلت إلى رقم أعرفه، وبجواره اسم ليس غريبا عليّ، المسكين، أعدت النظر مرة وأخرى ثم أخرى، الاسم يشبه اسمي الرباعي تماما، والرقم يطابق رقمي أيضا، إنه أنا وليس غيري! ليس إنذارا، بل كان حرمانا من الامتحان النهائي بسبب الغياب، رسوب.

لم تحملني قدماي من هول الصدمة، بحثت حولي عن كرسي أجلس عليه قبل أن أخرّ على وجهي، جلست أفكر، وبحثت عن البدائل، ليس ثمة حلول، سيتأخر تخرجي فصلا كاملا بسبب هذا الحرمان، ولكني قررت في لحظة شجاعة – وهذا هو وقت الشجاعة – أن أزور الدكتور في مكتبه، وأستجمع قواي ومفرداتي للتفاهم معه، وبالفعل، طرقت الباب وسمعت الجواب، دخلت عليه فابتسم ابتسامة الشامت، أخزاه الله، قلت له: يا سيدي العزيز هل يعقل أن أحرم من الامتحان بسبب الغياب ولم أستلم مذكرة الإنذار قط! هل من العدل أن أحرم من الامتحان وقد تجاوزت الغياب المسموح بمحاضرة يتيمة فقط!

نظر إلي نظرة لست أنساها، ثم قال، لقد تغيبت عن المحاضرات أكثر من عشر مرات، وقد تجاهلت غيابك حتى نهاية الربع الثالث من الفصل، وبدأت أسجل غياباتك بعد ذلك، إن شئت الحق، كنت تستحق الحرمان منذ شهر، وقد أعطيتك فرصة لكنك لم تستفد منها.

لم أجد جوابا، لأنه كان محقا في كل كلمة، خرجت من مكتبه مهزوما أجرّ خيبتي، ضاقت بي الوسائل ولم يبق لي غير باب الله، دعوته ورجوته، فسخّر لي صاحبا عزيزا استطاع بأسلوبه الحكيم ولسانه المعسول، أن يرفع الموضوع لوكيل الكلية، تمكنت من إتمام الفصل بنجاح، واجتزت هذا المقرر بفضل الله تعالى ثم بفضل ذلك الصديق.

الصامتون من حولنا ليسوا مغفلين في كل الأحيان، إنهم يفسحون لنا هامش التغيير ويهبون لنا فرصة التعديل، كلما تمادينا في التقصير واستبدّ بنا الخطأ، ضيعنا تلك الفرص وتجاهلنا ذلك الهامش الذي أتيح لنا، كان الدرس قاسيا جدا، لا يمكن لي أن أنساه ما حييت، تعلمت أن التزامي يجب أن يكون مبدءا أقوّم به نفسي وأربي به ذاتي، لا يجب أن يكون التزامي واحترامي لكل شيء مرهونا بنظرة الآخرين أو صحوتهم، أو غفلتهم وتجاهلهم.

15 يوليو 2020
انشر الرابط