الحقيقة

كنت قد دونت مسبقا مجموعة من العناوين لمواضيع أود الكتابة عنها حين يتيسر ذلك، أحد العناوين التي كتبتها يحمل اسم زميل كان معي في العمل قبل سنوات، وكانت لي معه نوادر وقصص وأحداث، وجدت أن توثيقها قد يكون مناسبا لما فيها من التنوع والدروس، خصوصا لحديثي العهد بالحياة العملية.

قبل أيام، وردت إلي رسالة تحمل نعيا، لم تكن الأسماء واضحة في البداية، لكنها كانت واضحة تماما عندما فتحت الرسالة، لقد رحل ذلك الزميل إلى ربه عندما كان يقضي إجازته في بلده، رحمه الله تعالى وغفر له.

قبل أعوام، اضطررت للعمل في نهاية الأسبوع، ليس من المعتاد أن يتواجد أحد في المكتب أيام السبت، ولكن أشرف، أحد المشرفين على العمال في موقع العمل، كان متواجدا، قدم لي القهوة كرما منه ولم يكن يفعل ذلك من قبل، ثم دوّن رقمه الخاص في ورقة وتركها على مكتبي، وأخبرني أنه سيغادر المكتب وأن أهاتفه إن احتجت خدمة منه، غادر أشرف المكتب، ثم غادر الحياة بعد ذلك بساعات، وجدت نعيه على بريدي الإليكتروني صباح اليوم التالي.

وقبل أعوام عديدة أخرى، اتصل بي أحد الزملاء في عطلة نهاية الأسبوع، أيام الدراسة، لمجرد التحية، ثم ودعني وقال: نلتقي إذن يوم السبت في الكلية، عاود الاتصال بي مساء اليوم التالي، ولكن الصوت لم يكن صوته، كان أحدهم يسألني إن كنت على تواصل مع أحد من أهله أو كان بإمكاني الوصول إلى أحدهم، بقيت محتارا حتى صباح اليوم التالي، حضرت إلى الجامعة، فكان خبر نعيه على لوحة أخبار الجامعة، وكانت قصة الحادث الأليم الذي تعرض له، حديث الجميع هناك.

أقلب الصور، ليست قديمة جدا، أطالع الوجوه، أتأمل الملامح والتفاصيل، يطل علي من الصورة أحدهم وكأنه يقول: لا تنسني من دعوة أو صدقة أو عمل، إذ ليس لي إلى مثل ذلك سبيل.

لا أستطيع – بدون مبالغة – أن أحصي الذين رحلوا منذ مطلع هذا العام، في كل أسبوع تقريبا، نستقبل خبرا لنعي، أو خبرين أو أكثر، رحلوا وبقيت صور لهم في أذهاننا لا ترحل، ألمح من بعيد، أحدهم في مجمّع أو مناسبة أو مكان ما، لوهلة، تغمرني السعادة بذلك اللقاء، ثم، أسترجع الحقيقة، لقد رحل ذلك الشخص، وقد خانني التشبيه.

لا نملك التحكم في مشاعر الفقد داخلنا، لا نستطيع تجاهل الألم وكبت الأحزان، لا يمكننا أبدا أن نواصل حياتنا وكأن عزيزا لم يرحل، ليس بوسعنا ألا نذرف الدموع أو ألا نغص بالآلام، ولكنه الإيمان فينا ممزوجا باليقين، إيمانٌ بأن الآخرة خيرٌ وأبقى، وأملٌ ويقين بأن اللقاء آت في مكان هو خيرٌ من هذه الدنيا، لولا ذلك الإيمان فينا، لم نجد لأنفسنا ما نواسيها به، ونستعين به على الحياة والعطاء والعمل والسعي من جديد.

الحقيقة التي نعرفها جميعا، هي أننا جميعا ذات يوم راحلون، وأن كل الذين نعرفهم ونحبهم، راحلون أيضا، الذي لا نعرفه فقط هو موعد الرحيل، والسابقون من اللاحقين فيه، التسويف في الاستعداد لذلك اليوم هو مصيبتنا، واحتضان أحبابنا هو ما نندم علي تفريطنا فيه بعد رحيلهم، الموت هو الحقيقة التي نراها كل يوم، ولا نتعمق فيها بشكل حقيقي، خوفا من الوصول إلى الخطوط الحمراء التي نظل نرفض الخوض فيها، حتى تخوض هي فينا رغما عنا.

إن كنت تبحث لنفسك عن سلوى في مصابك، فتأمل حال الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأي مصاب أعظم من ذلك المصاب؟ ليس صاحبا أو زوجا أو معلما أو أخا أو ابنا أو جارا أو غير ذلك، هو كل شيء في حياة ذلك الجيل، به أخرجهم الله من الظلمات إلى النور، كل صلاة بعده، تذكرهم به، كل عمل صالح، كان معلمهم فيه، كل كلمة، كل محبة، كل حسنة وكل سكنة، كل شيء كان يحيي في قلوبهم ذكرى الحبيب عليه الصلاة والسلام، فأي فقد أعظم من ذلك الفقد؟

القلوب لا بد تشتاق لأحبابها، يتمنى أحدنا لو وهبه الله لحظة يلتقي فيها ذلك الراحل، يهمس له بكلمة يروي له بها شيئا من محبته واشتياقه، ولكن، محالٌ أن يكون ذلك وقد سبق الأجل، أقرأ قول الله تعالى: “إن المتقين في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر”، فتسكن روحي وتطمئن، أي بأس على راحل هو في جوار رب كريم؟ نسأل الله أن يغفر لنا ولهم، وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.

28 يونيو 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني