الشارع عشرين

لا يجهل أحد من أبناء جيلنا هذا الاسم، وكيف يُجهل وهو المكان الذي اجتمعنا فيه جميعا عصر كل يوم، لا أعني نفسي وأخي وأقاربي فقط، بل الجميع، أنا وأبناء جيلي من المحيط إلى الخليج، نجتمع في الشارع عشرين دون أن نلتقي، نشترك في مشاعرنا تجاه ذلك الشارع، ومحبتنا لأهله وسكانه، واستمتاعنا بحواراتهم ونوادرهم وحكاياتهم.

الشارع عشرين، الحي الذي كانت تدور فيه أحداث البرنامج التعليمي العربي “افتح يا سمسم”، وهو من إنتاج مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربية، بمجموع حلقات قد يصل إلى أكثر من مئة وخمسين حلقة للجزئين الأول والثاني، فكيف تنسى أيام طالت فيها العِشرة بعدد هذه الحلقات؟

هل تساءل أحدنا مثلا، ما الذي كان يجعل الشارع عشرين مميزا بالنسبة لنا؟ وما الذي يجعلنا حتى اليوم، نردد الأناشيد التي كان يرددها أبطاله ونتغنى بها، ونعود إليها بين الحين والحين، نسترجع بها طفولتنا وأيامنا السالفة، هل هو صوت الماضي وحده والحنين إليه، أم ثمة سر في ذلك البرنامج كله، وفي الشارع عشرين على وجه الخصوص؟

في أول مشهد من الجزء الأول، تظهر المعلمة فاطمة لتعرفنا بنفسها، هي معلمة في روضة الشارع عشرين، لكننا لم نر قط تلك الروضة ولا صفوفها، لأن أطفال الشارع عشرين كانت دراستهم في حديقة الحي، يمر عليهم أهل الحي جميعا ويشاركونهم الدروس والأناشيد والألعاب، حتى نحن، كنا نحضر معهم دروسهم وننشد أناشيدهم ونسعد بلعبهم وكأننا نلعب معهم.

التعليم الذي كان يتلقاه أطفال الشارع عشرين، لا يختلف – دون مبالغة – عن أنظمة التعليم في الدول المتقدمة كما نسمع عنها، ولا أعلم حقيقة كيف مر ذلك على وزارات التعليم في بلادنا دون أن تتبنى تطبيقه ولو بشكل محدود للتجربة، وهو الذي كان يؤتي ثماره عن بعد، من خلال الشاشة فقط، وعلى مستوى الوطن العربي كله، تحكي المعلمة فاطمة للأطفال حكاية في حديقة الحي، يندمج معها أطفال الحي ونحن معهم، ويحضر الدرس عبدالله، البائع المتجول، يؤدي ملسون، الطائر المتكلم أغنية مرتبطة بالحكاية، ويشاغبهم نعمان بمشاغباته المعتادة، وقد يبادر هشام أو حمد أو جاسم أو سعيد أو خليل، بمداخلة أو تأدية لصوت شخصية من شخوص الحكاية، كل ذلك، يجعلنا نتمنى أمنية عصية على التحقيق، وهي أن نكون ضمن أبناء ذلك الحي، في الشارع عشرين.

في الشارع عشرين، ليس ثمة وجود للاختلاف ولا للطبقية، الكل فيه أهل وأصحاب، النجار حمد، والكهربائي هشام، والطبيبة ليلى، والمعلمتان، فاطمة ومريم، والخالة فوزية، وسعيد وخليل بائعا الشطائر والعصير، وجاسم صاحب المكتبة، والعم عبدالله البائع المتجول، بل وحتى الدمى، نعمان وملسون وعبلة، كلهم أصحاب وجيران يجمعهم الشارع عشرين، يأخذ كل منهم على عاتقه خدمة الآخر ويحرص على مصلحته، وفي تلك الحياة التي كنا نشاهدها على مدى تلك الحلقات، ما يكسب الطفل منا شعورا بالانتماء لذلك المكان وحبا له ولأهله، دون النظر في مهنهم أو أسلوب حياتهم.

أكتب عن الشارع عشرين، ليس اشتياقا له ولبرنامجنا العريق افتح يا سمسم فقط، ولكن، حسرة على ذلك الإعلام الهادف الذي تأسس عليه جيلنا وتأسست على مثله الأجيال التي تلت جيلنا، إعلام، يقوم عليه مربون أفاضل، يهتم الفرد منهم بما يقدمه لأبناء الوطن العربي اهتمامه بمصالح أبنائه ومستقبلهم، لا أتحدث عن المادة فقط، بل عن المادة والمظهر لكل الممثلين، واللغة السليمة التي يتحدث بها الممثلون، والأناشيد التي تغرس القيم والمبادئ، تنبذ  الفرقة والكراهية وتعزز التسامح والمحبة وحسن الجوار وشرف العمل وجميع الفضائل.

هناك جزء مؤسف في هذه الحكاية، لم يكتمل الجزء الثالث من برنامج افتح يا سمسم لأسباب سياسية، عُرض البرنامج ولكنه لم يحقق من النجاح ما حققه الجزءان الأولان، كان الشارع عشرين يجمعنا – كما أسلفت – على الحب والأخوة واليد الواحدة، ولكن، أفسدت السياسة حياة أبطالنا في ذلك الشارع، فتفرقوا واختلفوا، ولم يعد الشارع عشرين كما كان، لم تعد تُغنى فيه أناشيد الصداقة التي كانت: “وتعال فنحن صحاب، نختلف بغير سباب، ونحب بغير حساب، ونحب بغير حساب”.

بعد أفول نجم مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك – الذي كان لذات الأسباب السياسية التي تراجع بسببها برنامج افتح يا سمسم – بعشرة أعوام، سطع نجم قناة شباب المستقبل “سبيس تون”، التي قامت بدور عظيم في تثقيف الجيل التالي وتعزيز القيم والأخلاق والحفاظ على اللغة العربية السليمة، ولا شك أن المحتوى سيختلف لتطور الإنتاج التقني واختلاف القائمين على المؤسستين، غير أن الرسالتين تشتركان في المبادئ والقيم التي ألهمت القائمين عليهما إبداعا لا تزال تحن إليه الأجيال.

في خضم الإنتاج الإعلامي العالمي المدبلج والمترجم وغيره هنا وهناك، الإعلام الذي لا يمثلنا ولا نرضى أن يوجه إلى أبنائنا، لا بد أن نذكر تلك الحقبة الناصعة التي تمتع بها جيلنا، وحرم منها هذا الجيل، يحق لجيلنا أن يفخر بذلك الإنتاج الذي كان له دور في تقويم ألسنتنا وأخلاقنا، إنتاج، ليس من الممكن أبدا، أن تكون فيه نقطة سوداء، لأن آباءنا من المربين والأدباء والشعراء والفنانين، هم الذين أشرفوا عليه، وقدموه هدية لذلك الجيل.

2 يوليو 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني