ربع قرن

هل يمكن أن تنسى يومك الأول في مرحلة مهمة من حياتك؟ أنا لا أنسى تلك الأيام الأولى، بتفاصيلها الدقيقة جدا، أسترجعها وكأنها أمامي الآن، أذكر الناس فيها بهيئاتهم التي كانوا عليها وإن تغيرت هيئاتهم اليوم، أتحدث عن مراحل مهمة، ولا أعني أبدا ما كان عابرا مؤقتا فاستحق أن يكون في طي النسيان.

أذكر جيدا، يومي الأول في مدرسة الهداية، كنا، بين اندفاع ورهبة، اندفاع طبيعي يراود المقبلين على المرحلة المدرسية الأخيرة، مرحلة الكبار، ورهبة منها أيضا، ربما رهبة من اسم المكان، مدرسة الهداية، لا أبالغ أن شعورا بالفخر كان يملؤني لمجرد انضمامي لذلك الصرح العريق، وقد كنت أراقب أسوارها مذ كنت صغيرا، وأسمع اسمها يتردد دوما، في مناهج التعليم ووثائقيات التلفاز، وفي البيت أيضا، كل الرجال الذي أعرفهم، مروا من هنا يوما.

المدرسون جميعا، يستهل كل منهم حديثه بالتعريف بالمدرسة والفخر بانتسابه إليها، قبل تعريفه عن نفسه وسيرته، مدير المدرسة ألقى علينا خطبة عصماء في أول طابور صباحي نحضره، عن تلك الهداية العريقة وتاريخها الناصع، ورجالات البلد الذين تخرجوا منها، وعنه هو، ومقدار فخره بمكانه الذي يقف فيه اليوم، لم تكن خطبته تلك، الخطبة الوحيدة حول ذلك الشأن، كان يتردد علينا بين حين وآخر يذكرنا بقدر الهداية في قلوب رجالها، لم يرد لنا أن ننسى ذلك لحظة، حتى لا يسيء أحدنا إليها.

بل إنه عاد بعد أشهر وألقى خطبة لا تنسى، بكى فيها أمام الجميع، في يومه الأخير بمدرسة الهداية، وقد كان حريا به أن يسعد بترقيته إلى منصب رفيع في وزارة التربية، لكنه ظن مغادرة الهداية أمرا يستحق أن يُحزن له ويُبكى لأجله.

في زحمة الطلاب وتعالي الأصوات، في تلك الممرات التي تخترق الفصول، يمر بيننا في كل يوم أستاذ، يتوجه إلى فصله مبتسما، يحيي الجميع يعرفهم كان أو لا يعرفهم، هكذا كان دائما، لم يكن يدرسني في ذلك الفصل، ولكنني عرفته بمروره اليومي ذاك، كان جديدا في الهداية هو أيضا، قدم للتو من بلده إلى البحرين، لتكون الهداية محطته الأولى، ثم عرفته أكثر عندما تشرفت بالدراسة عنده في الفصل التالي، طيب هين، ودود حنون، كنا جميعا رغم شقاوة البعض، أبناءه الذين لا يقبل منهم الزلل أو التقصير، يهددنا طوال الفصل بالدرجات ثم لا يمسها بسوء، يهدد بعضنا بالشكوى عند آبائنا، ثم يطيل المدح في اليوم المفتوح خشية أن تضر وشايته بنا.

ربع قرن مر على تلك المرحلة، تخرجت من الهداية، ثم سافرت للدراسة وعدت إلى البحرين، عملت في أكثر من وزارة ومؤسسة، وأستاذي لا يزال معلما في المكان نفسه، ألتقيه أحيانا، فإذا ابتسامته لم تتغير، وترحابه كما كان، والهداية، لا تزال ذلك المكان الذي يلهج لسانه فخرا بالانتماء إليه.

التقيته قبل أيام في أحد المجمعات، وقفت عنده فرحب بي كعادته، ظننت أنه ما عرفني فنزعت الكمام، فإذا وجهه يتهلل، أزجى لي من كلامه الطيب ما يسر الله له، وتحدّث معي بما يثبت أنه قد عرفني فعلا رغم كل الأعوام التي مضت، ثم، أخبرني أنه قد قدّم استقالته، وأنه عائد إلى بلده نهاية هذا الشهر!

حاولت أن أستجمع كلمات الشكر والعرفان التي أعرفها، وصادق الدعوات، وأطيب الأمنيات، وأعلم أني لا أوفي حقه وأمثاله، يقدُم أساتذتنا من أقاصي الأرض طلبا للرزق، ثم تمتزج قلوبهم بقلوبنا، وتتجذر محبتهم لهذا الوطن فكأنهم جزء منه، يعيش كل منهم وأسرته بعيدا عن أوطانهم، وعطاؤهم كله يصب في مصلحتنا نحن، جيلا بعد جيل.

بعد هذا اللقاء السريع، طلبت منه رقم التواصل، فإذا به يعبر عن شكره وهو أحق بالشكر: “كنت أشعر ببعض الأسى لقرب مغادرتي، ولكن، تحية من طالب هنا، وكلمة شكر من آخر هناك، وابتساماتهم المليئة بالمحبة والعرفان، تنسيني كل ذلك التعب، ما بقي في العمر أكثر مما مضى، وليست الصحة كما كانت بالأمس، ولكن، يكفي من الفخر أنكم جيل كانت لنا معه بصمة، وسيسعدني جدا لو زرتني يوما في بلدي”.

كان هذا الأستاذ أحد العشرات من المدرسين الذين تتلمذنا على أيديهم، مضى بعضهم إلى وطنه بعد سنوات من التدريس، والبعض لا يزال في عطاء مستمر، وبعض آخر رحل إلى ربه بعد جهد وخير وعلم نافع، نسأل الله أن يجزيهم عليه خير ما جزى معلما عن أبنائه.

إن كنت طالبا، أرجو أن تصلك مني هذه الرسالة، المعلم الذي تلتقيه كل يوم، ستشتاق إليه في يوم قادم، ستدرك فضله وعظيم عطائه، ستتمنى لو عادت الأيام لتحسن تقديره وتوقيره، وتعبر له عن امتنانك لما يقدم من جهد وعطاء، أي معلم، مهما ظننت اليوم أنك لا تستفيد منه، أسألك بالله، قبل أن يمر الوقت إلى ذلك الحين، قم للمعلم، قدم له من حبك كلمة، عبر له عن تقديرك، فإن كلمة طيبة من طلابه، بالنسبة له كنز لا تساويه كنوز التقدير الأخرى.

5 يوليو 2020

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني