10:08

مرت أعوام أربعة، ولازلت أحاول، بقدر استطاعتي واجتهادي، أن أقف عند هذا الوقت في هذا التاريخ من كل عام، لأسرد فيه بعضا​​ مما يمكن سرده، ولكني في كل مرة، لا أستطيع، أو، لا أجرؤ!

قبل أربعة أعوام، تغير كل شيء، كل شيء بكل ما يعنيه التعبير من معان، تغيرت الكنية المبنية على العرف، لتحل محلها كنية جديدة، مبنية على قدوم مبارك – نسأل الله أن يكون كذلك – لمولود طال انتظاره، أسميته “جاسم”، على اسم والدي، راجيا من الله بذلك أن يجعل للمولود نصيبا من حسن الذكر والخلق الذي تفضل به على جده، حفظه الله.

صرت أبا، سمعت صيحته الأولى فاهتز في داخلي قلب لم يكن يهتز لأكبر من ذلك، ماذا حصل للتو؟ هل هي الحقيقة، أم ضرب من الخيال؟ أتأمل في وجه زوجتي، فإذا هي الأخرى تغالب الدموع، الأطباء يقلبون الصغير ويتفحصونه، وأنا أقف في الجهة الأخرى أراه يتقلب بين أيديهم، ولسان حالي يندد: أيها القساة، رفقا بولدي..

بين كلمات المهنئين، وقفت طويلا عند تهنئة والدي، لا أستطيع تصوير سعادته عندما أخبرته عن الاسم الذي اخترناه للمولود، وقفت طويلا، كيف كانت فرحته عندما بُشر بمقدمي وباقي إخوتي، لم يحك لنا شيئا من ذلك الشعور من قبل، هل سكت والدي عن تلك السعادة كلها، حتى لا يخونه التعبير في شأن عظيم كهذا؟

في كل يوم يكبر فيه جاسم، كان شيء يكبر في داخلي معه، لم أزل ووالدته نرسم الخطط ونتعاهد الأماني، نقدمه على أنفسنا ونشعر بالتقصير مع كل ذلك، ابتسامته، بكاؤه، نومه ويقظته، انتقاله من مرحلة لمرحلة، كل شيء من هذا وإن كان بديهيا، لم يكن بالنسبة لي كذلك.

في عامه الثاني، صرخ مرة باكيا، فهرعت إليه فزعا، لأجده يبكي وقد تدفق الدم من فيه، لم أحسن التصرف، ماذا أفعل، ماذا حدث أصلا، تبين أنه جرح صغير جدا، لكنه كان كبيرا جدا في قلب أب، لم يعتد أن يرى صغيره متألما، احتضنته وكنت أوشك أن أبكي معه، ثم دعوت الله ألا يريني فيه مكروها، وأظن، أن قلبي بعد هذه الحادثة البسيطة أصبح أقوى من ذي قبل.

حدثني الكثير من أصحابي عن وقع كلمة “بابا” في قلب الأب، ورغم كثرة حديثهم، لم أكن مستعدا لتلك اللحظة التاريخية، كان يناديني “ماما” قبلها، لقلة تواجدي في المنزل، وما إن سمعت “بابا”، حتى دارت بي الدنيا سعادة وبشرا، عدت إليه ضاحكا مستبشرا، سل ما شئت، قل ما تريد، الحمد لله الذي بسط لي في عمري حتى هذا اليوم، صدق أصحابي، إنها كلمة لها وقع مختلف، لا يمكن لواصف أن يبلغ عظمة وصفها.

قبل عام، دخل جاسم إلى الحضانة، فكان يومه الأول فيها أحد أصعب الأيام في حياتي الأبوية، كنت أترك جزءا مني لأرحل عنه مكرها، وهو يتوسل باكيا: لا تتركني! فأرحل عنه متقمصا دور الأب الحريص على مصلحة ابنه، وفي داخلي قلب يبحث عن عذر ولو كان تافها، ليعود أدراجه فيحتضن ابنه من جديد ويمسح دمعته، ضاربا بكل المصالح الأخرى عرض الجدار، ثم انقضت تلك الأسابيع، وتكونت لجاسم صداقاته الخاصة، وحكاياته التي يعود بها كل يوم، وكلماته الجديدة التي يفاجئنا بها بين الحين والحين، لأسترجع ذلك اليوم الأول فأحمد الله الذي ألهمني منه قوة وصبرا، وبلغني نهاية العام.

يكمل جاسم اليوم عامه الرابع، ليست مناسبة مميزة عند الكثيرين، ولكن، كل يوم في حياة جاسم، كان مناسبة مميزة بالنسبة لي ولوالدته، وباقي أهله ومحبيهم، كل لحظة كانت فرحة أود الاحتفال بها لولا التعقل الذي يحكمني في كل مرة، كل كلمة يتفوه بها، كل بسمة، كل دمعة يسكبها، كل شيء يتعلق به، أصبح مقدسا بالنسبة لي لا أستطيع الصد عنه ولا تجاهله.

في عامه الرابع، أسأل الله أن يجعل “جاسم” خيرا من والديه، وأن يجعله صالحا مصلحا، عالما عاملا، نافعا لدينه وأمته ووطنه، بارا بوالديه، حافظا للقرآن عاملا به ساعيا في تحقيق مقاصده، وأن يبلغني ووالدته، أسعد أيامه وأسمى أمنياتنا فيه.

وفي عامه الرابع، أدعو من وصل إلى هذا السطر، أن يرفع كفيه للسماء داعيا لابن أخيه بدعوة صالحة خالصة، ربما تفتح لها أبواب السماء، فيصلح بها جاسم، وتقر به عين أبي جاسم.

17 يوليو 2022

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني