وشاح

سوداء، لا يُعرف لها شأن، نشأت تخدم القوم وتسعى في حاجاتهم، لا أهل ولا مال ولا عون، أرسلها القوم مع فتاة لهم تخدمها، أو تحرسها، أو توصلها إلى حيث شاؤوا، كانت الفتاة تتشح بوشاح أحمر، فوضعته لتغتسل، أو سقط منها ولم تنتبه، فإذا حدأة تخطف الوشاح، تظنه لحما، وتطير به إلى حيث أمرها الله.

التمس القوم الوشاح فلم يجدوه، واتهموا الجارية بسرقته، فلما اخبرتهم خبر الحدأة ما صدقوها، وأخذوا يفتشونها حتى كشفوا عورتها، وربما ضربوها وأمعنوا في إيذائها، وهي تبكي وتشتكي، ولا معين لها ولا مغيث، وبينما القوم في شأنهم مع الجارية، إذ بالحدأة تلقي عليهم الوشاح ليقع بينهم.

أهذا الوشاح الذي اتهمتموني بسرقته؟ هو ذا عاد إليكم، ولم يكن اعتذارهم إليها لينيسها ألم الظلم والقهر، فتركت الديار ورحلت إلى بلد آخر، غريبة مرة أخرى، وساق الله ركابها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، تتخذ لها في مسجده خباء، فكانت تأتي أم المؤمنين عائشة، تحدثها وتسليها، لا يمر عليها يوم تجالسها فيه إلا قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا      ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

قضت أيام إسلامها تقم مسجد الحبيب، افتقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسأل عنها فأخبر أنها ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغّروا من أمرها، ثم قال: دلوني على قبرها، فدلّوه، فأتى قبرها وصلى عليها، رحمها الله ورضي عنها.

لربما تمنت تلك المرأة في لحظة ما، لو أنها منعت الحدأة من أخذ الوشاح، أو أنها لم تخرج في ذلك اليوم، ولكن الله دبر لها أمرا هو لها خير، فأرسل الحدأة لتأخذ الوشاح، ثم أرسلها مرة أخرى لتعيده وقد بلغ الظلم أشده، فيعتذر القوم عن ظلمهم ويخلوا سبيل الجارية، لتختار بتدبير الله مقامها الجديد، وتستنير بنور الله تعالى فينشرح صدرها للإسلام، ويكرمها الله بقرب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبته، ورفقة عائشة والدخول إلى بيتها والاستئناس بقربها، فأي فضل وأي بلسم لكل الذي كان!

إن حوصرت يوما في داخلك، بظلم أو قهر أو ألم، إن دارت عليك الدوائر ولم تجد لنفسك منها مفرا، حسبك، أن الله مطلع على قلبك وعالم بأمرك ، وأنه قادر في لحظة ما، أن يرفع عنك ذلك الابتلاء ويعطيك من فضله فيرضيك.

كلما قرأت قول الله تعالى: “ولسوف يعطيك ربك فترضى”، أتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأني به في طرقات مكة، غريبا فيها وهي داره وأرضه، يشار إليه – حاشاه – بالجنون والسحر والكذب والكهانة، فيخرج منها إلى الطائف علّه يجد فيها مأمنه، فإذا الابتلاء يشتد، يرسل أهلها عليه صبيانهم، يرمونه بالحجارة في أزقة الطائف، وهو الكريم، العظيم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم، يأوي إلى ركن، وقد أدميت قدماه الشريفتان، فيتضرع إلى ربه عز وجل” إن لم يكن بك غضب علي فلا ابالي”.

تمضي الأعوام، ويكتب الله لنبيه كل الخير، تُفتح مكة، وتؤمن الطائف، ويدخل الناس في دين الله أفواجا، وتصبح المدينة المنورة عاصمة الإسلام وشعلة الإيمان، تهفو إليها أفئدة المؤمنين وتأوي إليها قلوب المشتاقين، وتهرب إليها أمة سوداء، وحيدة فريدة، تجر آلام القهر وتسكب دموع الحسرة، ليرضيها الله في خير جوار، وفي صحبة خير خلق الله أجمعين.

لا تبتئس، إن كنت مظلوما، مهموما، تكالبت عليك الأمم والتهم، وأنت منها بريء، سيبعث الله لك حدأة تحمل وشاحا، فيرفع عنك الظلم ويجلو عنك الهم.

18 فبراير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني